المشاركات

مكر التاريخ

صورة
اكاد اجزم انه لم    يسبق   لمفهوم ان  لقي رواجا و اهتماما و بحثا مثل   الذي لقاه مفهوم "الحداثة" . فقد تضاربت حوله الدراسات و توزعت بين فريق داع الى تبنيه و القطع مع الماضي، في مقابل اخر حام للأصالة و منتقد له صونا للتراث (الذاكرة) . بل و امتد هذا الاختلاف الى تحديد دلالة هذا المفهوم ،   لكن كل المؤرخون مجمعون على ان الحداثة واقع تاريخي يتلخص في النقط التالية: - ثورة اقتصادية : (تطور النظام الرأسمالي و انهيار الاقطاع) - احياء التراث القديم في الفلسفة و القانون : (الليبرالية) -ثورة علمية مبنية على الملاحظة و التجربة :   (السيطرة على الطبيعة و اخضاعها) - ثورة دينية موجهة   ضد الكنيسة و احتكارها تأويل النص المقدس : (اصلاح ديني) - ثورة فكرية تعتمد اساسا على العقل :   (العقلانية) - ثورة سياسية ضد الاقطاعية و الكنيسة : ( ظهور الدولة الحديثة) بالتالي ،   فالاختلاف الذي اشرنا اليه ليس حول   تاريخية هذه الاحداث ،   بل في اسبقيتها. أي التفرقة بين الاصل و الفرع، السبب و النتيجة، المقدم و المؤخر. بالتالي من هذا التطور استنبط مفهوم الحداثة عبر مراحل، و هو يد

ما بعد الحداثة: زمن أفول سلطة الرأسمال الرمزي

صورة
بالأمس، و في طريق العودة مررت رفقة صديق بمنصة لتنظيم مسابقة مفتوحة لمهارة الرقص على أنغام الضجيج المنظم (ديدجي)، فشدنا تجمع الشباب الغفير المصطف فوف مدرجات الساحة الفسيحة لخطف نظرة مختلسة. و المفارقة أن إسم الساحة يرمز لدلالة فكرية –الأغورا- ، و مجرد سماعه يذكر بالنقاش الحامي الذي عرفته أثينا بين الفلاسفة و السجالات الكلامية التي دارت في جنباتها حول قضايا كبرى (أصل الكون، الإنسان، الأخلاق، المنطق، الحقيقة...). غير أن هذه الدلالة الفكرية غابت عن ذهن الجمهور المتفرج   الغارق في التصفيق، و الصفير، و تشجيع المتبارين على   مهارة الإلتواء و التمايل حول الجسم بطريقة مرنة، و تحت إيقاع أصوات موسيقى صاخبة. في مقابل عدد من المبادرات الفكرية التي احتضنتها هذه الساحة   و لم تلقى نفس الاقبال. هذا المشهد أجبرني للتساؤل حول من يصنع وعي الفرد اليوم ؟ و ما سبب أفول سلطة الرأسمال الرمزي (الأفكار) ؟   في ستينيات   القرن الماضي كتب هوبرت ماركوز كتابه الشهير "الإنسان ذو البعد الواحد"،   الذي خصه لتحليل المجتمعات الرأسمالية و جرد تناقضاتها الداخلية. و كان مرمى ماركوز هو الإجابة على سؤال

في أسبقية معارك عهد الأنوار

صورة
  لطالما لاحظت الإهتمام الواسع الذي تحضى به كتب بعض المدارس النقدية الغربية في العالم العربي، خصوصا المدرسة النقدية الألمانية (فرانكفورت). هذا النقد الذي يصف واقع الحداثة بالغرب ، و يعرض تحدياتها الراهنة. لكن، ليست المشكلة في هذا الصدى الواسع الذي تلقاه، بل في محاولة إستيراد ذلك الخطاب أو النقد و إسقاطه بشكل تعسفي على واقع مغاير، يعيش تحديات متباينة و ظروف مختلفة. لاشك أن هذا التماهي الغير المبرر مع هذا النقد ليس في مصلحة مجتمعنا في هذه اللحظة. لانه لا يفصلنا عن الغرب عدة أميال جغرافية فقط، بقدرما تفصلنا  عنه   قرون من التطور التاريخي. بالتالي، لا يجوز القفز على الواقع المتخلف لمجمعتنا و مقارنته مع واقع الغرب. مع العلم أن هذا النوع من النقد المستورد له بعد هوياتي ضيق أكثر من بعد تعليمي معرفي؛ فالفكر التقليدي يجد حجته في مثل هذا النقد للبقاء. بل هو مبرر وجوده و ضمان إستمراره   لانه يكشف تحديات   خصمه (الفكر المادي أو العلمي أي الحداثة). و يحاول إثباب ذاته بالاستناد   لخطاب المدارس النقدية للحداثة و التخلص من عقدة الإستلاب الحضاري الذي يتهم به التيارات الفكرية المخالفة  

محمد عابد الجابري: "ناقد" العقل العربي

صورة
كثيرة الكتابات التي تناولت العقل العربي، محاولة تفكيك بنيته و تحليل مكونات ثقافته. لكن، قلة من هذه الكثرة من نجحت في تملك الأدوات المعرفية اللازمة لتفكيك هذا العقل. و في هذه القلة القليلة يظهر إسم المفكر المغربي محمد عابد الجابري. فالمكانة المعرفية التي يحتلها الجابري ليست في عدد إنتاجاته، فهناك من فاقه كما. غير أن إضافته تظهر في مضمون هذه المنتوجات، أي كيفا. و هذا ما يشهد به مشروعه النقدي التحليلي بتفكيره في أعطاب الثقافة العربية، و تشريحه لبنية هذا العقل العربي الذي أنتجها. و كانت من بين أهم الخلاصات التي وصل إليها الجابري في مشروعه النقدي، جرده لثلاث أنواع من السلط التي توجه العقل العربي و تؤطر فكره. و هي كالتالي : * سلطة اللفظ: تتجلي هذه السلطة في الخطاب، و التفكير الخطابي يعتمد المجاز و الاستعارة، و ينأى عن إعتماد الحقيقة. و هذا النوع من الخطاب يلعب دورا مهما في الحقول الأدبية و الشعرية، لكن لا ينفع في القضايا السياسية و الاجتماعية و الحضارية. فهذه القضايا التحليلية تقتضي المواجهة مع الواقع و الحقيقة كما هي، أي البحث عن المعنى الموضوعي لا المجازي. فا لمطلوب هو إعطاء

نعوم تشومـــسكي: مشيع قداس تأبين الحلــم الأمريكــي

صورة
منذ الازمة المالية التي ضربت النظام الاقتصادي العالمي في 2008، بدأت الأصوات المناهضة لهذا التوجه الليبرالي الفاحش تتعالى أكثر   بين الفينة و الأخرى مؤكدة على مصداقية نقدها للبنية الرأسمالية و سياستها الإستغلالية، و منذرة باستحفال تناقضاتها الداخلية التي إنتهت إلى شكلها الحالي المتمثل في الرأسمالية المالية الإفتراضية (المضاربات المالية)، الأمر الذي يعيد إلى الواجهة سؤال النموذج الإقتصادي الأكثر عدالة و مساواة . في نفس السياق، حاول المفكر الأمريكي نعوم تشومسكي تفكيك البنية الإستغلالية للإقتصاد الدولي في فيلم وثائقي له " قداس تأبين الحلم الأمريكي" و الذي أخذ ما يزيد عن 4 سنوات لإنجازه. في هذه الفيلم   حرص تشومسكي على إيضاح الأزمة البنيوية لليبيرالية الجديدة المتمثلة أساسا في تركيزها للثروة و السلطة . و هذا التركيز يكون بتتبعها لعشر قواعد محددة، أحصاها على النحو التالي : 1/  قلص دور الديمقراطية: إذا كانت الديمقراطية تعني بسط السلطة بين يد العامة، فهذا يخالف مصالح أسياد البشر و الأثرياء لأنه يشكل خطرا على ثروتهم. لهذا لطالما جسد تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية ال

الدرس المكيافيلي في عيون التاريخ

صورة
منذ سنوات خلت، و أنا أسمع عن صاحب كتاب ((الأمير))، لكن كل ما علق بذاكرتي مما سمعته هو أن ماكيافيل  "منظر" و "مشرع" الاستبداد، و "مؤسس" أخلاق القوة في الحكم و الذئبية في التعامل بين الأمير و الشعب. قد لا أكون الوحيد الذي أصيب بتلك العدوى، بل هي سارية في بنية العقل العربي و الإسلامي.  فكل تقييم عندنا للفكر الغربي يتم عبر مدماك النموذج/المثال، بعيدا عن استحضار عامل الواقع/التاريخ؛ و يشرح برهان غليون أن مشكلة البحث العلمي في المجتمعات العربية و الإسلامية هو سيطرة المنهج الانتقائي الشكلاني، و هو مزيج من التحليلات اللغوية و العقائدية و تاريخ الأفكار يسعى من خلال تجريد الظاهرة أو الحدث عن عمقه التاريخي و التجريبي إلى اختلاق ماهية أو بنية أولية ثابتة يتخذها تعلة للإسقاطاته الذهنية...و النتيجة المباشرة لهذه الممارسة هي التضحية بالواقع و بالعلم في الوقت نفسه. و بالتالي فالمطلوب هو تأكيد أولوية التجربة و التاريخ الاجتماعي لفهم العقائد و الصراعات و الحركات الاجتماعية. (1) اذن، فنظرتنا إلى الميكيافيلية يجب أن تكون بعيون التاريخ لا بعيون المثال؛ لأن الأولى تخو

في ذكرى رحيله: سمر فكري مع الشهيد حسين مروة

صورة
كنت غارقا في تصفح أوراق الكتاب. فجأة، أدرت وجهي صوب شاشة هاتفي، و لفت انتباهي الساعة التي تشير إلى الثالثة فجرا. فالناس كلهم نيام و لا يسمع همس و لا هجس، أحسست بأن عقارب ساعتي تجري على غير عادتها المألوفة. ساعات مرت دون انتباه، و انا منهمك في غمار نقاش فكري عميق مع الفيلسوف و المناضل الشيوعي حسين مروة في سمر ليلي آسر. باشرت في مطارحة رأي الشهيد حول جملة من القضايا الفكرية العالقة في مجتمعنا و ذات راهنية بين مثقفينا، و فضل أن يؤطر النقاش على أرضية كتابه (النزاعات المادية في الفلسفة العربية الاسلامية). هكذا اذن استهللت اسئلتي للشهيد عن تقييمه و رأيه في الدراسات الشائعة في مجالنا التدوالي حول الثراث، و كان جوابه أن كل ما يجمع بين هذه الدراسات هو أمرين إثنين : أولا أنها رهن المواقف المثالية، ثانيا انها تنظر الى منجزات الثراث في استقلالية مطلقة عن تاريخها. و بالتالي بقي تاريخ الفكر العربي الإسلامي تاريخيا "ذاتيا سكونيا" أو "لاتاريخيا" لقطع صلته بجذوره الاجتماعية. كما لم ينسى الشهيد توجيه سهام نقده الى الرؤية السلفية، باعتبارها تعبير عن أيديولوجية البورجوازية الع