في أسبقية معارك عهد الأنوار
لطالما لاحظت الإهتمام الواسع الذي تحضى به كتب
بعض المدارس النقدية الغربية في العالم العربي، خصوصا المدرسة النقدية الألمانية
(فرانكفورت). هذا النقد الذي يصف واقع الحداثة بالغرب ، و يعرض تحدياتها الراهنة.
لكن، ليست المشكلة في هذا الصدى الواسع الذي تلقاه، بل في محاولة إستيراد ذلك
الخطاب أو النقد و إسقاطه بشكل تعسفي على واقع مغاير، يعيش تحديات متباينة و ظروف
مختلفة.
لاشك أن هذا التماهي الغير
المبرر مع هذا النقد ليس في مصلحة مجتمعنا في هذه اللحظة. لانه لا يفصلنا عن الغرب
عدة أميال جغرافية فقط، بقدرما تفصلنا عنه قرون
من التطور التاريخي. بالتالي، لا يجوز القفز على الواقع المتخلف لمجمعتنا و
مقارنته مع واقع الغرب. مع العلم أن هذا النوع من النقد المستورد له بعد هوياتي
ضيق أكثر من بعد تعليمي معرفي؛ فالفكر التقليدي يجد حجته في مثل هذا النقد للبقاء.
بل هو مبرر وجوده و ضمان إستمراره لانه يكشف
تحديات خصمه (الفكر المادي أو العلمي أي الحداثة). و يحاول إثباب ذاته بالاستناد لخطاب المدارس النقدية للحداثة و التخلص من عقدة الإستلاب الحضاري الذي يتهم به التيارات الفكرية المخالفة (اليسارية، الليبرالية...).
لكن، الملاحظ أن هذا الفكر
التقليدي يقع في تناقض كبير. فهو عندما يثبت ذاته بنشر نقد الحداثة، إنما ينفيها في
المقابل. كما يؤكد أنه في أعلى مراتب الإستلاب الحضاري الذي يرمي به خصومه؛ بمعنى
أوضح، أنه متأثر بشكل غير واع بالفكر
الفوضوي الذي عرفته الحداثة خلال ق 19. و وجه الشبه بين الفكرين يتجلى في سعيهما نحو إلغاء كل ما هو
كائن (مظاهر الحداثة الإقتصادية،الإجتماعية و السياسية...)، و التلويح بأحلام
رومانسية بعيدة عن الممكن التاريخي. و عليه، فمعركتنا في هذه اللحظة هي إحلال
الفكر العلمي مكان الفكر التقليدي، و كل نقد أو فكر لا يصبو إلى هذا المقصد فهو
غير صحي و له تبعات رجعية على محيطنا الثقافي.
و لنضرب مثلا على ما قيل
أعلاه، قد نقرأ عند بعض مفكري الغرب دعوتهم
للإنتقال من "الإقتصاد الصناعي" إلى "الإقتصاد ما بعد الصناعي أو مجتمع المعرفة". و نحن لا ننكر أنها دعوة حميدة، لكن ليس لأي مجتمع. فدول
العالم الثالث لا تتوفر بعد على بنية تحتية إنتاجية قوية مثل الدول الغربية حتى
تنقل نشاطها الإقتصادي إلى "العالم الإفتراضي". لان معدل الإنتاج
المرتبط بالصناعة سينخفض و بالتالي سينعكس سلبا على إقتصادها المتخلف أصلا، عكس
الدول الغربية التي راكمت بنية إنتاجية رأسمالية قوية منذ قرون. و نفس الأمور
ينطبق في السياسة، الإجتماع و الأدب... و كما يشرح الأستاذ عبد الله العروي فاننا عندما
نرفض ما لا نملك (المكتساب المعرفية للحداثة) ، و نظن أننا ملكناه بمجرد أننا
رفضناه، نستهزئ بالثراث الليبرالي، الضيق،
المحدود، السطحي، و نحن لم نستوعبه بعد. و يبقى المجال العام في حياتنا العامة، في
المدارس، في الصحف و المجلات، في الأندية مفتوحا للفكر التقليدي الذي يظن أنه
معاصر الحاضر لانه غير ليبرالي مع أنه متختلف في الواقع عن الفكر الليبرالي ذاته.
(1)
بالتالي، فالمطوب هو
التفكير في أسئلة واقع اللحظة التاريخية الراهنة و ليس في المابعديات (ما بعد
الحداثة، ما بعد العلمانية...) المعبرة لهموم واقع بعيد عنا. بمعنى أخر، يجب أن
نستوعب أولا النقاش الذي عرفته أروبا خلال القرن 18، من مضامين جديدة ساهمت في نشر
الذهنية العقلانية (الفكر المادي) التي دفعت بأروبا إلى أبواب العصر الحديث. و ليس
من المعقول و لا من المصلحة أن نسلك في شؤوننا العامة مسلك من يظن أننا قد عرفنا
معارك عهد الأنوار. فنحن لم نعرف عهد
الأنوار في الماضي و لا يمكن بحال أن نختصر الطريق إلى الحرية الفكرية بدون أن
نخوض مثل هذه المعارك...و إن إجتثات الفكر السلفي من محيطنا الثقافي يستلزم منا
كثيرا من "التواضع"، و الرضى بأن نتيمز مؤقتا عن الغير بنبرتنا فقط لا
بمضمون ما نقول. (2)
(1)، (2) عبد الله العروي: العرب و الفكر
التاريخي، دار الحقيقية للطباعة و النشر
بيروت 1973.
تعليقات
إرسال تعليق