مدينة تحت نار الصواريخ

شتاء غزة بارد صامت و لنباح الكلاب نغمة ممطوطة حزينة تشبه الى حد كبير أنين المتألمين. و حفيف أوراق الأشجار يتناهى إلى أذاني مكتظا بالأسرار و الرموز الخفية. كنت ضيق النفس حزين الفؤاد تراودني هواجس لا تبشر بخير... و أنا كشاب في عمري الرابعة عشرة أعيش وسط القطاع . و حياتي لا تختلف عن باقي حياة أطفال غزة فإما أن تكون يتيم الأب أو الأم أوكلاهما أو  أن تحرم من حنان الأب لأنه خلف القضبان في غياهب سجون المحتل. إسمي  "سامي"  أعيش في بيت متواضع  يقينا أيسر ما ينبغي أن نتقي من عاديات الطبيعة . مع والدتي و أخي الصغير. فطوال هذه السنين و نحن محرومان من حنان الأب لأنه مات في سجون المحتل بعد فترة من إضرابه عن الطعام بسبب اعتقاله الإداري . و هذا ما جعلني في مكانه رب البيت أساعد والدتي في تلبية حاجياتنا اليومية و للحصول على رغيف خبز دافئ ببعض القروش التي أُغليها في هذا الجو القارس و الزمهرير الهائج .
و في أحد الليالي القارسة من هذا الشتاء رجعت إلى البيت متأخرا، فوجدت أمي تنتظرني جالسة بجوار شمعة و جو الخوف و القلق يجثم على قلبها ، فجلست بجوارها قائلا محاولا إرضائها :
-هل مازلت مستيقظة يا أماه في هذا الوقت المتأخر من الليل ؟
- أجابت و قد إنفرج ثغرها بإبتسامة ميتة لا معنى لها :
- إنه لعزيز علي جد عزيز أن أرى ما يحيط بك يا فلذة كبدي من معاناة و مازلت في عمر الزهور ، و لكي تعرف أن الله غالب على  أمري و لكن قَدرُك أن  تعرف معنى المسؤولية و الأمانة منذ الأن .فليكن إيمانك بالله أقوى فهو نعم المولى و نعم النصير.
- بعون الله يا امي .
-أ ليس غذا يوم إجازة يا إبني .
- بلى .
- ما رأيك أن نزور قبر والدك غذا فقد ألحَّ علي أخوك الصغير هذا .
- إن شاء الله .
_ تصبح على خير يا غالي .
- و أنت من اهل الخيرو الجنة يا أمي .
دخلت إلى غرفتي متثاقلا ، ثم إستلقيت على سريري فشردت بنظراتي إلى بعيد و أحلام شتى مؤرقة تقف حائلا بيني و بين النوم. فما زالت كلمات والدتي تدور في عقلي كما أنه لا أستطيع أن أبعد ذهني عن صورة الجنود الإسرائليين المتجولين في أزقة القطاع بعد تهديدات رئيس وزراء الإحتلال بشن هجوم مباغث على غزة في أية لحظة.
تمطيت في فراشي ، و نزلت منه على مضض ثم أزحت الغطاء عني ببطء ، فألقيت نظرة من النافذة فإذا بالأشجار تهتز إهتزازا عنيفا بفعل الرياح العاتية التي تصفع الوجه ، و السماء الغائمة. نظرت فلا أسمع إلى صدى صوت البحر النائم الذي يغمغم بلحن هادئ ينضح بالأسرار، و الغموض و المصابيح الذايلة التي تلقي بضوء واهن. أوجست من المشهد  فانقبضت نفسي و تراجعت قليلا إلى الوراء فقلت و أنا أبتلع رقي في إرتباك :
- إرهاصات اليوم غير مألوفة .
جلست في خشوع و أنا أردد بصوت خافت مخافة أن أوقظ من في البيت " اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلا فأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلا " .
و ما هي إلا لحظات حتى فتحت طائرات الأبتشي  نيران رشاشاتها على غزة، لقد تساقطت الصورايخ في أماكن مجهولة و متعددة . صاروخ واحد بدد أوصال القئ الذي لف القطاع، و صيحات الرعب شقت عنان السماء فخرج الناس إلى الشوراع . دخلت عليا أمي و قد إحتقن وجهها الفاتن فكزت على أسنانها في غيظ و هي تحمل أخي الصغير بين جنبيها و هي تقول :
- وقعت الواقعة ليس لوقعتها كاذبة . لا تخف يا إبني ،فالقصف ليس وليد الساعة علينا، تذكر أن هذه أرضك و أرض أجدادك فقد شبيت عليها، و رضعت من خيراتها ،و شربت من مائها،و مشيت على ترابها، فلب ندائها .
- رفعت رأسي في رضا و كبرياء قائلا :
- خير لنا أن نمشي حفاة عراة جياعا و نحن أحرار . من أن نرضى بالذل و الهوان لهذا الكيان .  
أحسست أن هذه اخر كلمات أو كأنه أخر لقاء بيني و بين أمي . هرولت مسرعا  خارج البيت بمقربة المسجد الكبير حيث الناس مجتمعين هناك . و ما أن وصلت حتى وقفت مشدود القامة ، صارم الملامح ، خافق القلب من وابل الصواريخ المتساقطة على القطاع . و مع صوتها المرعب و صوت أذان الفجر الندي ، زحف الناس نحو المسجد و قد إنشقت حناجرهم بالهتليل و التكبير " الله اكبر الله اكبر" . و ما أن خلص الناس من صلاة الفجر حتى صعد الامام منبره و هو يصيح :
- " أيها الناس... إرفعوا أيايدي  التضرع إلى الله و إعلموا أن النصر من عنده و أن علائم النصر تلوح من وراء الشدائد ، و تذكروا ما قاله خالد بن الوليد و هو على فراش الموت ( لقد شاهدت مائة زحف أو زهائها و ما في بدني شبر إلا و فيه طعنة سيف أو رمح فلا نامت أعين الجبناء).
كان الإمام يتحدث و هدير كالرعد يصم الأذان ، لكن كلماته كانت كالنسيم الرطب للناس و بعث في قلوبهم النشوة و الصبر و السلوان. تذكرت أّمي و أخي فخرجت راكظا و مسرعا إلى البيت وضربات قلبي تهز صدري اللاهث لكي أطمئن عليهم و ما أن وصلت حتى حولت قذيفة طوابق البيت إلى ركام فأصبحت البناية و الارض سواء، لقد سوت منزلنا بالارض . دار بي المكان ثم وقفت جامدا صامتا كشجرة قميئة جردها الخريف من غصونها و أوراقها الخضراء، إرتميت على الأرض و تدفقت الدموع من عيني رقراقة كالندى و ظل قلبي يذرف الأنين و الأسى و صرخت محتدما :
   -  أين أنتم يا مسلمين ؟ أين أنتم يا عالمي أجمع ؟
شرعت أبحث عن جثة أمي و أخي الصغير تحت الأطلال و الذي لا يزال في عامه الأول من الرضاعة . و ما أن وجدتهما حتى زاغت تظراتي و دقت نبضات قلبي و إرتعشت مفاصلي. كأنما تساقطت أكداس من الصخور و الرمال فوق رأسي ، وبعد حين  أتت سيارة الإسعاف فأخذتهما و في اليوم التالي  شيع جثمانهما و دفنا بجوار والدي .
مآسي تقشعر لها الأبدان خلفها العدوان الغاشم على القطاع . أجريت الدماء أنهارا و سوَّى الناس بين قتيل و جريح و أسير و يتيم و معطوب و معاق . فرائحة البرود تغمر أثير غزة في غارات صهيونية ، و البيوت المهدمة التي تحولت إلى أكوام من تراب هي الملجأ الوحيد لأطفال غزة في ليالي هذا الشتاء . أما الجو فقد تشبع بغيوم كثيفة تكونت من الخراب و الصورايخ و القصف المتواصل في كل حدب و صوب  بالقطاع ، أما المعاناة فهي لا تعد بالارقام .
عندما رأيت الوضع جمدت في مكاني  ، و ساد وجهي شحوب ظاهر، و بريق عيني الحائرتين كلها تعبر عن ما يسري داخلي من معاناة و ألام .
 لقد إكتويت بنيران العذاب و القلق الطويل كنت أسير بين أطلال البيوت المهدمة مشتت الذهن محطم الأعصاب قلبي ينزف الألم و الحسرة و الأنين  فحياة بلا أب و لا أم لطفل مثلي طعمها مرير كالعلقم .
و في ليلة عاصفة شديدة البرودة جلست على صخرة كبيرة من ركام بيتنا فاذا بي أرى الاطفال يرتعشون من شدة البرد فطفقوا يضربونجنبيهم بأيديهم المصقوعة ، و الجوع يفري حشاهم و بأسمالهم البالية . فقولت في لهجة رقيقة حانية :
- لقد مات الضمير العربي قبل ان يموت الضمير الانساني .
و هكذا مرت كل ليالي الشتاء و غزة و اطفالها و شيوخها في العرى و الفئ أمام  ريح عاتية تتسرب تحت الملابس فيقشعر لها الجلد و  يرتعش لها الجسم و تصطك لها الاسنان .و ما للعرب من قرار. .!


  

تعليقات

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

محمد عابد الجابري: "ناقد" العقل العربي

في ذكرى رحيله: سمر فكري مع الشهيد حسين مروة

سؤال الدين و الحرية ؟