ماذا نأخذ من ماركس ؟





لا مراء في أن كارل ماركس من كبار الفلاسفة الذين تركوا ورائهم جدلا حادا و نقاشا صاخبا. فما يزال شبح ماركس يراود المنظومة الرأسمالية بالرغم من هيمنتها و سقوط كل التجارب الشيوعية المنافسة، التي استمدت مرجعيتها من أطروحات ماركس. و لعل الذي أعاد صاحب "رأس المال" إلى الواجهة هو  بعض الأزمات الاقتصادية  التي  تضرب النظام الاقتصادي المعاصر بين الفينة و الأخرى، و لعل آخرها أزمة 2008. و هذا ما يدفعنا للبحث عن سر هذا الحضور الدائم له، و التساؤل حول ما هي اضافة  ماركس لنيل هذا الحضور؟
صحيح أن كل النماذج الإشتراكية اليوم صارت جزءا من الماضي، و أصبح النموذج الغربي الليبرالي محط أنظار الجميع، و مبلغ أمانيهم الوصول الى مستواه التنموي و السياسي و الاقتصادي. لكن هذا كله لا يخرج ماركس إلى الهامش بجوار تلك التجارب الإشتراكية الفاشلة، و سقوط هذه الأخيرة  قد يحيل الى قصور في التنبؤات و بعض التصورات التي قد تكون بلغت مستوى عال من المثالية، غير أنها لا تسقط نجاعة [المنهج] الذي أدى إلى استنتاج تلك السرديات و الأطروحات.
إن الخلط الذي حدث عند رهط كبير منا، هو اعتقادنا أن سقوط تجارب تاريخية هو اعلان عن قصور في ذات [النظرية] التي أفرزت تلك السرديات. و هذا ما يؤكده عبد الله العروي بأن الإشتراكية ليست دائما الماركسية، و رغم ذلك ما٠ تزال تختلط في أذهان الناس الإشتراكية التي هي مجموعة أهداف سياسية و اجتماعية و أخلاقية. و الماركسية التي هي طريقة لتحليل الظواهر الاجتماعية و الاقتصادية و التاريخية (1).
اذن، فأهمية ماركس لا تكمن في مفاهيم صورية صكها من خلال تأملاته في صيرورة الواقع و تعقيداته، و لا في تنبؤات صاغها لتحقيق مبتغاه. بل إن قوة ماركس تتجلى في المنهج التي اعتمد عليه لاستنتاج أطروحته. لهذا كانت التجارب الإشتراكية الناجحة هي التي حاولت تكييف المنهج مع واقعها، و هنا نذكر تجربة لينين و سياسة ال NEP و ماو في الصين، عكس تجارب أخرى من بينها ستالين. و عليه نكون قد أدركنا أن جديد ماركس كان هو منهجه في التحليل، لكن هذا الجواب يدفعنا إلى التساؤل من جديد عن ماهية هذا المنهج؟
عودا على كلام المفكر العروي و تأكيدا له، فالماركسية هي طريقة في التحليل  و نظرية لفهم "مفتوح" للواقع و تطرح حلولا لمشكلاته من خلال الوعي بمختلف تناقضاته و مكوناته. و من بين آليات هذا المنهج نجد (الجدل المادي) الذي يلعب دور المرشد في عملية البحث في الواقع للوعي بصيرورته الواقعية (2). و ليس الجدل من إبداع ماركس، بل هو من اكتشافات هيغل، لكن الفضل في تطويره يرجع للاول لا الثاني؛ حيث أن جدل هيغل كان يبحث في صيرورة الأفكار لا الواقع، لذلك بقي حبيس تلك المقولات. بينما ماركس فرض الاهتمام بالمادة/الواقع لا الفكر، لان هذا الأخير انعكاس للأول. بمعنى آخر؛ الماركسية في منهجها المادي أخذت في جدل هيغل نواته العقلية، و نبذت قشرته التأملية الصوفية التي ترجع العامل الفاعل في الحياة الاجتماعية إلى (الروح المطلقة). لهذا فقوة الماركسية و منظرها  تكمن في انه أوقف هيغل على قدميه و ذهب به إلى منتهاه، فإذا كان هيغل بمثابة نفي للفلسفات التي سبقته و نهاية منطقية لها، فإن ماركس كان نفي النفي بتعديله للجدل الهيغلي، و بذلك حقق اكتمال الجدل و كان التحول النوعي الذي أدى إلى تأسيس منطق جديد. لكن، ما ميزة هذا المنطق الجديد عن المنطق القديم الذي كان سائدا؟
لا شك أن منهج ماركس أسس لتحول نوعي، لان بفضله أصبحت طريقة التفكير تنطلق من وضع ملموس (بشر،علاقات،إنتاج...) و بالتالي تخلت عن تعالي الفلسفة و عن تأملاتها، لتغوص في الوجود الحقيقي و في حركة الواقع و تغيراته و تناقضاته (3)، و هذا فحوى مقولة ماركس العميقة: "ليس وعي الناس من يحدد وجودهم، بل وجودهم هو الذي يحدد وعيهم". هذا المنطق الجدلي المادي كان مخالفا لما دأبت عليه الإنسانية سابقا ، حيث هيمن المنطق الارسطي الصوري الذي يعتمد على السكون و القياس على فكرة مسبقة، و مشكلته انه لا يمثل واقع الحياة، و قد أصبح رجل الفكر بتأثير من هذا المنطق يحتقر رجل العمل فهو قد ارتفع في السحاب و اخذ يبني لنفسه هنالك العلالي و القصور، فهو لا يفهم مشاكل الحياة و لا يريد أن يفكر فيها... فهو فكر غائي يبحث في الامور المنتهية (4). كما أنه يعطي الأولوية للوعي لا الواقع. بل يسعى إلى إسقاطأفكار صورية جامدة على أي واقع يوضع أمامه بغض النظر عن تناقضاته.

إجمالا، يمكن إختصار الكلام و القول بأن جديد ماركس يكمن في تأسيسه لمنطق جدلي مادي كطريقة أرقى في التفكير بالسعي لوعي الواقع و وعي صيرورته لتقديم إجابات علمية.
و اجابة منا على السؤال الذي عنونا به مقالتنا، فإن ما يجب اخذه من ماركس ليس أهدافه السياسية  و الاجتماعية و الأخلاقية التي تمثلها الإشتراكية، بل في المنهج المادي الجدلي الذي اعتمده في التحليل القائم على أولية الواقع على الوعي؛ لأن الصيرورة الواقعية هي الواقع الحقيقي، اما الصيرورة الذهنية فهي في الواقع المفترض المتصور. و لا شك في أن المطلوب هو وعي الصيرورة الواقعية لتكون الصيرورة الذهنية مؤثر فقط، تسهم في تحديد تلك الصيرورة. و بهذا فأن المادية رؤية مفتوحة. (5)





--------------------------

(1)عبد  الله العروي،الغرب و الفكر التاريخي، ص 8-9
(2),(5)سلامة كيلة، الجدل المادي
(3)سلامة كيلة، الجدل و التصور المادي في التاريخ
(4) علي الوردي، مهزلة العقل البشري 

تعليقات

  1. وجهة نظر تحترم. سنعزد لمدارستها فيما بعد.. تقبل خالص التحية صديقي سمير

    ردحذف
    الردود
    1. ان شاء الله سي عمر...فالمبتغى هو توسيع دائرة الأشكال و تعميقها.

      حذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

محمد عابد الجابري: "ناقد" العقل العربي

في ذكرى رحيله: سمر فكري مع الشهيد حسين مروة

سؤال الدين و الحرية ؟