في ذكرى رحيله: سمر فكري مع الشهيد حسين مروة
كنت غارقا في تصفح أوراق الكتاب. فجأة، أدرت وجهي صوب شاشة هاتفي، و لفت انتباهي الساعة التي تشير إلى الثالثة فجرا. فالناس كلهم نيام و لا يسمع همس و لا هجس، أحسست بأن عقارب ساعتي تجري على غير عادتها المألوفة. ساعات مرت دون انتباه، و انا منهمك في غمار نقاش فكري عميق مع الفيلسوف و المناضل الشيوعي حسين مروة في سمر ليلي آسر.
باشرت في مطارحة رأي الشهيد حول جملة من القضايا الفكرية العالقة في مجتمعنا و ذات راهنية بين مثقفينا، و فضل أن يؤطر النقاش على أرضية كتابه (النزاعات المادية في الفلسفة العربية الاسلامية). هكذا اذن استهللت اسئلتي للشهيد عن تقييمه و رأيه في الدراسات الشائعة في مجالنا التدوالي حول الثراث، و كان جوابه أن كل ما يجمع بين هذه الدراسات هو أمرين إثنين : أولا أنها رهن المواقف المثالية، ثانيا انها تنظر الى منجزات الثراث في استقلالية مطلقة عن تاريخها. و بالتالي بقي تاريخ الفكر العربي الإسلامي تاريخيا "ذاتيا سكونيا" أو "لاتاريخيا" لقطع صلته بجذوره الاجتماعية.
كما لم ينسى الشهيد توجيه سهام نقده الى الرؤية السلفية، باعتبارها تعبير عن أيديولوجية البورجوازية العربية المعاصرة. حيث أن هذه الأخيرة "تسقط" في تحليلها للثراث طابعه الاجتماعي، و بذلك تؤكد جوانبه الذاتية. و كونه إنجازا فرديا ابتدعته ((النخبة)) بمعزل عن علاقاتها بالواقع الاجتماعي التاريخي، و بالقوى البشرية المنتجة و دور هذه القوى في إنتاج الأسس المادية لمنجزات الثراث.
أما عن موقفه من دعاة (تحديث) و (إقصاء) الثراث فقد كان ثقيلا. و اعتبر الشهيد أنهما وجهان لعملة واحدة؛ كون أن دعاة التحديث يتفقون على [تبعية] الحاضر للماضي، و عليه يتم تغريب المجتمع الحديث و فكره عن عصرها و عن مجرى التحولات في هذا العصر. في مقابل دعاة الإقصاء المجمعين على [قطع] الحاضر عن الماضي، بالتالي تغريب المجتمع و الفكر عن تاريخهما و جذور أصالة انتمائهما إلى ذلك التاريخ.
اذن، ينعتهم الشهيد حسين مروة بالاشتراك في "العدمية". فكلا الدعوتين يحاولان إقلاع المجتمع العربي و الفكر من موقعهما في الحاضر؛ إذ إن الدعوة الأولى تقتلع الحاضر من الاصالة. و الدعوة الثانية تقتلع الماضي عن المعاصرة. و النتيجة أنهما اغتراب عن الواقع. و عليه، يكون مأزق الدعوتين هو مأزق منهجي محض.
و لم يكتفي الشهيد في انتقاد ما هو سائد فقط، بل قدم البديل لتجاوز هذا الفراغ البائس-كما سماه- الذي تقوم عليه محاولات حذف الثراث العربي أو تحديثه باسقاطه على حاضرنا. و قدم بذلك أطروحته لتخطي هذا المأزق المنهجي و لتجاوز هذه الدراسات الشائعة حول الثراث، و ذلك لا يتأتى إلا بالاستعانة بالمنهج المادي التاريخي الذي ينظر الى الثراث في ضوء نظرته الجدلية إلى علاقة الحاضر بالماضي. و الى العلاقة بين المعرفة المعاصرة للثراث و المضمون الفكري و الاجتماعي الذي يحتويه الثراث، و الذي يستوعبه في ضوء حركته ضمن الزمن التاريخي الذي ينتمي إليه. بعبارة أدق، لا تستوعبه إلا من وجهة علاقته بالبنية الاجتماعية السابقة التي أنتجته، أو بالظروف التاريخية نفسها التي انتجت بدورها تلك البنية الاجتماعية مع ما لها من خصائص تميز ذلك العصر و المجتمع.
اذن، نوجز أطروحة الشهيد في ان المطلوب اليوم لفهم ثراثنا الفكري، يستوجب بالضرورة بتر علاقتنا بالمنهج المثالي و النظرة الميتافيزيقية الي التاريخ، كونها تضعه في دائرية مفرغة. و تبني المنهج المادي التاريخي الذي ينظر الى التاريخ في حركة حلزونية صاعدة، تخضع لحتميات القوانين العامة لحركة تطور المجتمع.
تقدم بنا الحديث بعيدا حول قضية الثراث، لكن حاولت توسيع دائرة النقاش مع الشهيد، و إلتمست منه إيضاح وجهة نظره في ابن تيمية كجزء من هذا الثراث الذي كنا بصدده. و كم استغربت من جوابه و هو المناضل الشيوعي ذي النزعة التقدمية، إذ وقف وقفة المدافع عنه و اعترف بصوابية النقد الذي صاغه ابن تيمية لمنطق أرسطو و أشاد بالجهد الذي بدله في سبيل دحض المنطق الارسطي. غير أن الذي زاد في تأكيد إنسانية الشهيد حسين مروة و علو كعبه، هو موقفه الإيجابي أيضا من مدرسة الأفغاني-عبده حيث وصفها انها كانت دعوة متميزة بجدتها و تأثيرها العميق في بلدان الشرق الإسلامية. و اعتبر موقفها من الثراث جد متقدم و تخطى الموقف الرومانسي الذي ساد في تلك المرحلة، حيث كان لمدرسة الافغاني-عبده نفس نقدي نسبي من الثراث.
و قبل إنقضاء المطارحة، ختم الشهيد السمر بخلاصة عامة. و قال؛ أن دعوة العودة إلى الثراث جاءت كرد فعل مع بدأ الموجة الاستعمارية على المشرق، فهي رجعية في مضمونها بتمجيد الماضي، و تقدمية لدوافعها كحافز لتنامي المشاعر القومية و انبعاث الشخصية العربية لمواجهة العنصر التركي و الغربي الرأسمالي. لكن هذا المنحى الاعتزازي أخذ مسارا منحرف فيما بعد.
----------
هذه مقالة عبارة عن رثاء لروح الشهيد و الفيلسوف حسين مروة قي ذكرى اغتياله في 17 فبراير 1987 عن عمر ناهز 79 عاما. و هي عبارة عن حوار افتراضي بيني و الشهيد أثناء قراءتي لكتابه: "النزاعات المادية في الفلسفة العربية الاسلامية"-الجزء الأول.
رائع الصديق الجميل سمير بالتوفيق😊
ردحذف