أي إنســــــان يريد اللـــه ؟



لطالما اقترنت الفلسفة بفعل التساؤل، بل الفلسفة قبل كل شي عملية تساؤل مستمرة و تعنى بالسؤال أكثر من عنايتها بالجواب، فكما يقول الفيلسوف الألماني "كارل ياسبرز" ( الأسئلة في الفلسفة أهم من الأجوبة، إن كل جواب يصبح سؤالا جديدا). و في هذا السياق، انكب الفلاسفة كل من من زاويته الخاصة  للإجابة على سؤال "ما الإنسان؟" في محاولة لفك شفرة الذات الإنسانية، لذا قالوا في محاولتهم لبسط هذا الإشكال  أن الإنسان ((حيوان ناطق)) و ((كائن واع))، فملكة الوعي و اللغة كانا المعياران اللذان يُميزان الإنسان عن باقي كائنات بيئته البيولوجية. لكن، مع تقدم المعارف و الإكتشافات العلمية و الثورات الفكرية نجد أن من أقرب ما وصف به الإنسان، و عُرف به منطقيا في الوعي الحديث تمردا على المعقولات التجريدية الأولى فيه، هو أن ((الانسان حيوان ناقد)) و ((كائن محتج))، كما رأى "ماركس شيلر"، و كذلك إناطة "البير كامو"  ربطه وُجود الإنسان بتمرد: [ أنا أتمرد إذن أنا موجود ]. و بالتأكيد فالتمرد و النقد المقصود بهما هو الإنقلاب على السائد و الراسخ و التمرد عليه، و تحدي لسلطته و استبداده على فكر الأجيال، فلطالما تتجاوز سلطة الموروث (السائد) في قهرها  و استبدادها، سلطة الحكام و استبدادهم، كما أن أثر الاول في تخلف الأمة كثيرا ما يتجاوز أثر الثاني، بل إن الثاني غالبا ما يكون وليد الأول. [عبد الرزاق الجبران: النقد و النقد الديني (الصيرورة من التكوين إلى التشريع)،مجلة الوعي المعاصر، العدد 10 و 11 سنة 2003]
عودة الى السؤال، إذا كان رهط كبير من المثقفين و الفلاسفة يعتبرون الإنسان حيوان محتج، و أن إنسانية الإنسان رهينة بممارسة النقد و التمرد على السائد، فالأحرى بنا توسيع دائرة السؤال، و القول: أي إنسان يريد الله؟ ما نموذج الإنسان الخليفة في الارض؟
في البدء، لا مناص من قراءة تأملية  لآيات الإستخلاف [وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ]، و الملاحظ أن جزء من الجواب مضمور في هذه الاية، حيث أن نموذج الإنسان الخليفة بالمعنى القراني  هو الذي يحب المعرفة  و الباحث عنها [وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا]، و الذي يقدر على التمرد على غرائزه [وَعَصَىٰ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ ].فالله أمر الملائكة أن تسجد لآدم لأنه الكائن الوحيد الذي يحمل في ذاته وحدة الأضداد (نعم) و (لا)، (مادة) و (روح)، و الكائن الوحيد الذي يقدر على تجاوز ذاته و أناه و التمرد على غرائزه، و أن يرفع نفسه إلى أعلى عليين، أو أن ينزل بها إلى أسفل سافلين [وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا].
وبالتالي، فالانسان هو الكائن الفريد من نوعه، الذي يكون حرا في اختيار الخضوع "نعم" أو التمرد "لا"، هو الحيوان الذي لا يمكن تطويعه بسهولة [قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا]، و تجربة  آدم في الجنة كانت البث التجريبي الأول لهذه الخاصية الإنسانية عندما خالف الأمر الإلهي و لم يمتثل له [وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ]. و بناء على هذا، فإن تفضيل الله لآدم  راجع بالأساس إلى كونه  أكثر معرفة و علما على الملائكة و أوسعهم اطلاعا، فالله لا يريد أي إنسان، بل يريد نموذجا خاصا تتضمن فيه مجموعة من الصفات المذكورة في اللآيات السابقة، لعل أبرزها لا على سبيل الحصر: الباحث و المتأمل و المترد الناقد. و هذه هي "الأمانة" التي حملها الإنسان في هذا الوجود [إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا]، بل إن الإنسان استحق القيام بعملية الإستخلاف في الارض بسبب هذه المواصفات التي ينفرد بها.


إذن، فآيات الإستخلاف في سورة البقرة، توضح لنا نموذج الإنسان "الخليفة" الذي يريد الله، و النبي إبراهيم هو صورة مصغرة لهذا النموذج، إنسان ذو حس تأملي عميق و ورح إستكشافية و نزعة  نقدية شكاكة. إنسان يبحث عن الحقيقة في هذا الوجود و لا يقبل  الأجوبة الجاهزة و الأفكار الشائعة و لا يخضع لسلطة المورث [الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ]، إنسان يجيد النطق بلغة الرفض و العصيان "لا" كما يجيد لغة الخنوع و الطاعة "نعم". إنسان يُعود نفسه على السباحة في المياه العميقة للمحيط العاج بالأسئلة المؤرقة، و الضاج بالهواجس و المخصب بالمخاوف... فقط بهذا يحقق لإنسان ذاته و إنسانيته، لذلك لا عجب في القول، أن الوحي ظاهرة نقدية  محضة، للمجتمعات التي ارتهن الوعي فيها بنسق الآباء [وكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إنَّا وجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وإنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ قَالَ أَوَ لَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ]، لذلك "فالآبائية" ليست نمط تاريخي في التفكير مرتبط بعبادة الأصنام، بل هي نسق معرفي و رؤية في التحليل مرتبطة بالخضوع لسلطة السائد و الراسخ، و قمع السؤال الحارق. و قد عالج النقد القراني المنظور  التراثي البشري الذي أحاطت به المخيلات الخرافية و الأسطورية، و تضمن معالجة نقدية لكل الموروث الروحي المتعلق بالكتب السماوية السابقة، و هذا النقد التراثي ليس بقصد إحداث قطيعة مع التراث الروحي للبشرية، و لكن بقصد إستعادة هذا التراث إلى حقيقته في مجرى التوحيد [تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَىٰ أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ ۙ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ]... إته استرجاع فراني نقدي لا يكاد يبلغه الحفر الأركيولوجي المعاصر اتجاه الموروث البشري، إذ يتضمن تعرية الحقول الثقافية الأسطورية و الخرافية التي استلبت حقائق تلك الكتب السماوية و حقائق النبوات. [العالمية الإسلامية الثانية:محمد أبوالقاسم الحاج حمد ص422-423]

تعليقات

  1. السلام عليكم,
    لقد أثرت بموضوعك هذا , أخ سمير, قضية جد مهمة . إذ أننا في مجتمع يبدو على عكس ما أراده الله عز و جل , فالرؤية التي ترسخت لذا الكثيرين من الأجيال السابقة المربية تنحصر في وجوب إتباع ما خلفته الأجيال السابقة , في حين أن الإنسان المثالي كما بينت في موضوعك , المراد منه ( الإنسان المثالي ) أن يتسم بصفات التشكيك , السؤال و الفضول .. فمهما بلغ الانسان من تشكيك , سيصل لا محالة إلى الحقيقة المطلقة , و إن بلغها عن جهده فذلك سيكون بمثابة الجواب الشافي له .

    ردحذف
    الردود
    1. كلامك في الصميم، اخي ياسين...مودتي

      حذف
  2. تحياتى أخي سمير ..
    مزيد من التألق.
    أسأل الله العظيم أن يوفقك فيما يحبه ويرضاه

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

محمد عابد الجابري: "ناقد" العقل العربي

في ذكرى رحيله: سمر فكري مع الشهيد حسين مروة

سؤال الدين و الحرية ؟