مكر التاريخ
اكاد اجزم انه
لم يسبق
لمفهوم ان لقي رواجا و اهتماما و بحثا مثل
الذي لقاه مفهوم "الحداثة". فقد تضاربت حوله الدراسات و توزعت بين
فريق داع الى تبنيه و القطع مع الماضي، في مقابل اخر حام للأصالة و منتقد له صونا
للتراث (الذاكرة). بل و امتد هذا الاختلاف الى تحديد دلالة هذا المفهوم،
لكن كل المؤرخون مجمعون على ان الحداثة واقع تاريخي يتلخص في النقط التالية:
- ثورة اقتصادية :
(تطور النظام الرأسمالي و انهيار الاقطاع)
- احياء التراث
القديم في الفلسفة و القانون : (الليبرالية)
-ثورة علمية مبنية
على الملاحظة و التجربة : (السيطرة على
الطبيعة و اخضاعها)
- ثورة دينية موجهة
ضد الكنيسة و احتكارها تأويل النص المقدس :
(اصلاح ديني)
- ثورة فكرية
تعتمد اساسا على العقل : (العقلانية)
- ثورة سياسية ضد
الاقطاعية و الكنيسة : ( ظهور الدولة الحديثة)
بالتالي، فالاختلاف الذي اشرنا اليه ليس حول تاريخية هذه الاحداث،
بل في اسبقيتها. أي التفرقة بين الاصل و الفرع، السبب و النتيجة، المقدم و
المؤخر. بالتالي من هذا التطور استنبط مفهوم الحداثة عبر مراحل، و هو يدور حول
المفاهيم التالية: سلطة الفرد،
حريته، عقله، تدبيره لشؤونه، و هيمنته على الطبيعة. إذن مكونات المفهوم "الحداثة" بعد ان حدت هي : الفردانية، العقلانية، الحرية، الديمقراطية، العلمانية/العلمية. (1)
نقف هنا قليلا، و دون الاسترسال في تفاصيل التطور
التاريخي للحداثة. نبدأ في مساءلة اطروحة
ثالثة تقف حلا وسطا بين الفريقين السابقين، اطروحة ترفع شعار الاصالة و الحداثة
معا؛ اي حلا توفيقيا يستند الى التراث منهجا و مضمونا، و يعتمد على الحداثة تقنيا و
شكلا. هذه الاطروحة تبنتها الحركة
الاسلامية في محاولة منها للخروج من
مأزقها النظري، خصوصا بعد دخولها غمار العمل السياسي و ما ترتب عن ذلك من مراجعات
نظرية افضت الى اطروحة تلفيقية (اسلمة الحداثة) .
علي سبيل
المثال، و بعد ردح من الزمن بدأت الحركة الاسلامية تقتنع بوهم التعارض بين الدولة
المدنية و الاسلام (الحاكمية عند سيد قطب)، و الديمقراطية (سيادة ارادة الشعب) مع الشورى (سيادة ارادة الله)، و القانون (احكام وضعية) مع الشريعة (الاحكام
الالهية). و بالتالي كنتيجة لهذه المراجعات خلصت الى ضرورة ولوج مؤسسات الحداثة و الترافع عن همومها من
خلال الاليات المتاحة من مجالس بلدية، برلمان، مجتمع مدني الخ.
لكن هذا
الاستيعاب للديمقراطية،لا يعني ان الحركة الاسلامية نجحت في هضم كل مقومات
الحداثة، بل ظنت بأنها قادرة بكامل وعيها و ارادتها الحرة على اختيار ما يتناسب مع
مرجعتها التقليدية (التراث) من
المنجزات التقنية للحداثة و نبذ الباقي
الذي يحمل فلسفتها الحداثية. لذلك تم قبول الديمقراطية كآلية اجرائية لفرز المشروع
السياسي الحاكم. و تم رفض العلمانية رفضا مطلقا لتعارضها مع المرجعية الإسلامية
(شمولية الاسلام)، و نفس الامر مع الفردانية بحجة تنافيها مع القيم الدينية
(العفة، الاحسان...) و تساعد على الغواية و الجهر بالمعصية. إذن بعد تجربة طويلة
قاربت العشرين سنة للحركة الاسلامية في العمل السياسي (معارضة و حكما)، هل صمدت هذه
الاطروحة في وجه تحديات الواقع الموضوعي و اشتراطاته ؟
للاجابة على السؤال، لربما كنا بحاجة إلى أن نتأمل في المواقف الاخيرة لقيادات الحركة الاسلامية
(العدالة و التنمية بالمغرب و حركة النهضة التونسية) خصوصا بعد الانتقال من موقع
المعارضة ذي الخطاب الايدولوجي الى سدة التسيير و ما يفرضه من موضوعية و واقعية
تامة خطابا و ممارسة.
فالخلاصة التي لا يتخلف عليها اثنان هي ان قناعاتها بدأت تتسم بمرونة كبيرة في قضايا كانت الى حدود
الامس من الثوابت و القطعيات (الحجاب،
اللباس، الاعتراف بحرمة الحياة الخاصة و قداستها ). بالتالي، ما دلالة هذا التحول؟
اولا، ان اتساع دائرة المراجعات، يكشف ان اطروحة الحركة الاسلامية
التي صاغتها تحت ضغط الواقع السياسي لم تكن إلا ترقيع لمأزقها النظري، لان هذه
المراجعات الجديدة تكشف على ان خطابها بدا يستطبن
فكرة العلمنة ببطء شديد و دون وعي و بالتالي فشلت في اسلمة مقومات الحداثة كما كانت تؤمن.
ثانيا، هذا التحول يكشف
على ان الحداثة كل لا يتجزأ، و لا تقبل الاختيار بين مكوناتها او المفاضلة بينها و اهمال ما يبدو لنا مخالفا لمرجعتنا
الحضارية. فالحداثة واقع يفرض نفسه علينا بوعي او بدون وعي، و لا بد لنا من الاخذ
بها و استيعابها. و عليه، فالأطروحة القائمة على منطق الارادة/الوعي في انتقاء مكونات الحداثة ابانت عن فشلها، لأن هذه الاخيرة تسللت الى فكر الحركة الاسلامية خلسة دون وعي و
إرادة لان الواقع الموضوعي و التاريخي فرض عليها هذا الاستبطان. فلم تعد المسالة
مسالة اهداف و قيم، هذه خرافة بل اكذوبة سافرة، كلنا نريد الرفاهية و الامن والثقافة. الجميع
يريد حظه من الخيرات و الا لما احتج، لما
تظاهر، لما اضرب عن العمل (2). ختاما، ان موجة العوم ضد الحداثة مخاطرة. ماذا يبقى؟
إما الغوص حتى تمر الموجة فوق رؤوسنا فنظل
حثالة، وإما نعوم معها بكل ما لدينا من قوة فنكون من الناجين في أي رتبة
كان" (3)
(1)،(2)عبد الله العروي، عوائق التحديث، مقالة منشورة في
مجلة فكر و ابداع (جريدة الاتحاد الاشتراكي).
(3)
عبد
الله العروي، مفهوم الحرية، المركز الثقافي
العربي، بيروت- الطبعة الرابعة، 2008، ص 5.
تعليقات
إرسال تعليق