الدرس المكيافيلي في عيون التاريخ
منذ سنوات خلت، و أنا أسمع عن صاحب كتاب ((الأمير))، لكن كل ما علق بذاكرتي مما سمعته هو أن ماكيافيل "منظر" و "مشرع" الاستبداد، و "مؤسس" أخلاق القوة في الحكم و الذئبية في التعامل بين الأمير و الشعب.
قد لا أكون الوحيد الذي أصيب بتلك العدوى، بل هي سارية في بنية العقل العربي و الإسلامي. فكل تقييم عندنا للفكر الغربي يتم عبر مدماك النموذج/المثال، بعيدا عن استحضار عامل الواقع/التاريخ؛ و يشرح برهان غليون أن مشكلة البحث العلمي في المجتمعات العربية و الإسلامية هو سيطرة المنهج الانتقائي الشكلاني، و هو مزيج من التحليلات اللغوية و العقائدية و تاريخ الأفكار يسعى من خلال تجريد الظاهرة أو الحدث عن عمقه التاريخي و التجريبي إلى اختلاق ماهية أو بنية أولية ثابتة يتخذها تعلة للإسقاطاته الذهنية...و النتيجة المباشرة لهذه الممارسة هي التضحية بالواقع و بالعلم في الوقت نفسه. و بالتالي فالمطلوب هو تأكيد أولوية التجربة و التاريخ الاجتماعي لفهم العقائد و الصراعات و الحركات الاجتماعية. (1)
اذن، فنظرتنا إلى الميكيافيلية يجب أن تكون بعيون التاريخ لا بعيون المثال؛ لأن الأولى تخول لنا فهم الضرورة الاجتماعية و الواقعية التي في إطارها تبلورت، أما الثانية فتساعدنا في مقارنته مع الفضيلة لتجاوز الواقع و الترفع على إشراطاته. بالتالي، السؤال الواجب طرحه هو كيف نفهم صاحب ((الأمير)) على ضوء التجربة التاريخية الواقعية؟
كإجابة عن السؤال، يعتبر غرامشي أن نص الأمير كان بمثابة بيان سياسي متعلق بالأوضاع التي عاصرها ماكيافيل. و يقصد بذلك أوضاع تمزق ايطاليا إلى دويلات متصارعة و المهددة بالهيمنة الخارجية، هيمنة فرنسا القوية و إسبانيا الموحدة...و قد عاصر ماكيافيل أيضا القائد الأسقف سافونارلا، حيث حاول هذا الأخير إصلاح دويلة فلورنسا عن طريق المبادئ الأخلاقية الدينية، و مع ذلك تعرض للقتل. و كانت نهايته السيئة تعلن بالنسبة لماكيافيل استحالة ممارسة أي إصلاح سياسي تحت أردية الدين، حيث يعلن نص ((الأمير)) أن هذا زمن الدولة، زمن القوة، و أن قواعد السياسي تختلف كلية عن قواعد المثاليات المتعالية. بالتالي حرص ماكيافيل على ضوء هذا الواقع الإيطالي المنقسم إلى صياغة توجيهات و نصائح من أجل الأمير...و هذا ما يسمح لنا بالقول إن هذا الخطاب هو البحث في سبل تقوية الدولة، سبل استمرارها، سبل الوحدة و القوة و التقدم، و هي الأمور التي تفتقدها إيطاليا.(2)
و عليه، تكون الرؤية بعين التاريخ تجعلنا ننأى عن وصف ماكيافيل و مؤلفه ((الأمير)) أنه مشرع الإستبداد، بل رؤيته كمسعى إصلاحي نظري، و محاولة للتفكير في المعضلات الواقعية...فهو في ((الأمير)) لا يقدم أكثر من برنامج مصلح سياسي ذي غيرة وطنية و ذلك اعتمادا على محتوى فصله الأخير، الذي تضمن دعوة ماكيافيل الصريحة لتحرير إيطاليا من البرابرة (3).و يجمل الاستاذ كمال عبد اللطيف الاسئلة المؤطرة للمجهود النظري ل ((الأمير))، في ثلاث أسئلة كبرى: كيف يمكن الوصول للحكم ؟ كيف نمارسه ؟ و كيف نحافظ عليه ؟
اذن، فقد اعتمد ماكيافيل على البعد السياسي الواقعي أكثر من البعد الاخلاقي المتعالي. و لكن ما قاله ليس من إبداعات خيالاته الواسعة، بل هو جزء لا يتجزأ من واقعنا السياسي اليومي المفعم بالسعي نحو السلطة و الحفاظ عليها. لذلك يقول الاستاذ الكبير عبد الله العروي بأننا لا نستطيع تجاوز الميكيافيلية إلا إذا تحررنا من المجتمع الذي يولد السياسة.
(1)برهان غليون، الدولة و الدين، ص 18-19، المركز الثقافي العربي.
(2)(3)كمال عبد اللطيف، مجتمع المواطنة و دولة المؤسسات:في صعوبة التحديث السياسي العربي.
تعليقات
إرسال تعليق