عنوان المرحلة: التنازع بين خيار المواجهة و خيار الوحدة
إن المجتمع البشري يحتاج إلى قدمين ليمشي عليهما، و هاتان القدمان هما عبارة عن جبهتين متضادتين. و من الصعب على المجتمع أن يتحرك بقدم واحدة. و لو درسنا أي مجتمع يتحرك لوجدنا فيه جماعتين تتنازعان على السيطرة فيه؛ فهناك جماعة "المحافظين" الذين يريدون إبقاء كل قديم على قدمه وهم يؤمنون أن ليس في الإمكان أبدع مما كان. و نجد إزاء هذه الجماعة جماعة أخرى "معاكسة" لها هي التي تدعو إلى التغيير و التجديد، و تؤمن أنها تستطيع أن تأتي بما لم يأت به الأوائل (1). بهذه الرؤية الواقعية يحلل عالم الاجتماع علي الوردي تطور المجتمع الإنساني.
إذن، نستهل حديثنا بفرضية مفادها أن "الصراع/التنازع" صفة أساسية في الطبيعة الإنسانية و تركيبته الأولية. و الذي يعطي للمجتمع معنى لتطوره و صيرورته هو تنازع أفراده حول مصالحهم الذاتية و الأنانية، و المجتمع الإنساني لا يخلو من هذه الطبيعة. فالتعاون قيمة سامية مطلوب منا العمل من أجل بلوغها، لكن المجتمع يحتاج إلى نقيضه كي يتطور و يتفاعل و ينمو؛ فالانسان حيوان مفترس قبل أن يتطبع مع المثل و القيم. فكلاهما ضروريان في الحياة.
و عليه، فالأصل في الإجتماع الإنساني لضمان تطوره هو أن يتوزع إلى فريقين: فريق أول يدعو إلى الإرتكان لما هو موجود، و القبول بما هو محتوم و الحفاظ عليه خشية شتاته. و هم "المحافظون" الذين يحرصون على خطاب (الوحدة) و لم الشمل. و فريق ثاني يرنو إلى التمرد على السائد، و التطلع إلى ما يجب أن يكون و للمستقبل. و هم "الثائرون" الذين يحرضون على الوفاء للمبادئ الأولى/المرجعية والإخلاص لروح المثل، و يستندون إلى خطاب (المواجهة).
ليست نيتي إظهار التيار الذي يملك الحقيقة و الأحق في الإتباع، فالحقيقة توجد عند كل منهما و كلاهما ضروريان لكي تتطور الحياة الإجتماعية. و لنضرب المثل بتاريخ المغرب للإظهار أهمية هذا القانون الإجتماعي؛ فالمتأمل للتاريخ السياسي للمغرب يستشف أنه كلما وسعت الدولة نفوذها و أمسكت بزمام السلطة، إلا و ظهرت حركة إجتماعية/دينية تعارض الأفكار الرائجة و تحاكم سياسات الدولة القائمة بمعايير أخلاقية عالية، ثم سرعان ما تنجح فتتحول إلى حركة سياسية تنافس السلطة السياسية القائمة فتسقطها. و هنا تبدأ في تبني خطاب (الوحدة) و تتخلى عن خطاب (المواجهة). بعدها تخرج حركة إجتماعية أخرى تنحو نفس مسار الأولى و تسقط سابقتها.
إذن، فالمحافظين في كل مجتمع/حركة إجتماعية/حزب يدعون دوما إلى صيانة وحدة و تماسك الجماعة-الأمة، يبنما الثائرون لا يقيمون وزنا للوحدة بل عينهم على المثل العليا و السرديات الكبرى. لكن الإشكال لا يمكن في ذات الفريقين، بل هو في أيهما معرض للنسيان و التجاهل؟
إن من خلال معاينة الإجتماع البشري، يمكن القول أن الناس يميلون أكثر إلى خيار (الوحدة/التماسك) على خيار (المواجهة/التمرد). و هذا ناتج من طبيعة الخيارين؛ خيار المحفافظين أقصر السبل و أقربها لتحقيق المصلحة، و لا يشكل تهديدا للمنافس أو للعدو الخارجي. بينما خيار الثائرين فيه مشقة وجيزة، لكنه أيضا ليس إلا مطية لتحقيق المنفعة، غير أن طريقه ليس معبدا كالأول. بل إن وأد أي حركة إجتماعية/حزب يكون بدس نفس الخيار الأول بين مناضليه، ثم تتم عملية التدجين و الدخول إلى بيت الطاعة و الولاء؛ و هكذا كان سبيل أحزاب وطنية عتيدة طغى فيها خطاب المواجهة بالأمس، و أصبحت اليوم من أبناء "الدار الكبيرة" بعد أن تم تصفية تركة الثائرين و خفض أصواتهم المزعجة !
و بالتالي، فالخيار الذي يغفل عنه الكثيرون و ينصرفون عنه لمشقته بالرغم من ثماره الكثيرة هو خيار المواجهة، ليس لانه الأحق بل لانه الأكثر تهميشا و الناس في طبعهم يميلون إلى العجلة في تحصيل المنفعة و القران يأكدها [ خلق الإنسان من عجل]. فصحيح أن طغيان الثائرين على المحافظين يشكل خطورة على الحياة الإجتماعية، لكن ذلك صعب الحصول نظرا لضرورة تواجد فئة مستفيدة من الوضع القائم. و المشكلة في أن المحافظين عندهم من الإغراءات المادية ما يسكتون به الأصوات المزعجة. أما الثائرون فسلاحهم لا يتجاوز إغراءات عاطفية و أحلام وردية تلوح في الأفق -و قد يستعملون العنف المادي في مرحلة متقدمة
- لكنها تنجح أحيانا في إيقاد جدوة الثورة في قلب المهمشين و العامة باحساسهم بالجور الحاصل، و تركيزهم على وفرة مغانم المحافظين و أكاذيبهم.
على سبيل الختم، إن الإجتماع البشري يحاول بلوغ المثل العليا و القيم الإجتماعية من خلال تطوره بفضل هذا التنازع الذي يكون بين أفراده، فأية حركة إجتماعية تبدأ بتبني خطاب (المواجهة) لكن ما أن تصل إلى السلطة/النفوذ حتى تصبح ميالة إلى خطاب (الوحدة) حفاظا على إمتيازات مادية و مغانم حاصلة. و تبقى مصلحة المجتمع في ظهور حركة أخرى تثور على خطاب التماسك الداخلي، و همها الوفاء للمثل العليا و التضحية على الوحدة من أجل التقدم إلى أن تستفيد هي الأخرى.
و إلى هنا أتوقف في تلخيص ما سبق، و أترك الكلمة لاستاذ علي الوردي: خلاصة الأمر إن من خصائص كل دعوة إصلاحية جديدة أنها تفرق الجماعة. ذلك لأن المترفين/المحافظين يقفون لها بالمرصاد و يقاومونها ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا. و إذا رأيت دعوة ((رنانة)) تدعو إلى وحدة الجماعة فاعلم أنها سوف لا تتحرك ساكنا و لا توقظ نائما. يقول القران الكريم: [و ما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون] (2)
(2)،(1) مهزلة العقل البشري، الدكتورعلي الوردي،دار الوراق للنشر،
تعليقات
إرسال تعليق