في الحاجة إلى فكـــر الأنـــــــوار




لقد شكل فكر الأنوار طفرة نوعية في التاريخ الإنساني، و لحظة مفصلية في تطورها الفكري؛ حيث دشن مرحلة بداية وعي الإنسان بضرورة البحث عن حريته التي فقدها باسم  أحكام خارج إرادته، و السعي لاسترجاع سيادته باعلاء مكانة العقل أمام الدين، إذ بدأ الدين يفقد سلطته السابقة بتدخله في كل حركات الانسان (اقتصاديا،سياسيا و اجتماعيا...)، و بدأ العقل يزحف على مساحة المقدس المحتكرة و يقلص عليه دائرته و يزاحمه في تنظيم شؤون المجتمع.
لذلك ليس من الصدفة أن نجد بأن جل فلاسفة الأنوار أعلوا من مقام العقل، و أصبح هذا الأخير محددا لوجود الإنسان. و هنا تحضرني أجابة الفيسلوف الالماني إيمانويل كانت عن سؤال ما هو الانوار؟ بقوله:" إنه خروج الإنسان عن مرحلة القصور العقلي وبلوغه سن النضج أو سن الرشد"، و في نفس السياق يمكن  فهم  دلالة الكوجيطو الديكارتي: "أنا أفكر، أذن انا موجود".
إذن، فالأنوار إعلان عن نهاية هيمنة المقدس و بداية التمرد و الخروج عن الوصاية، و إقرارا بمركزية الذات الإنسانية و استقلاليتها و بلوغها مستوى الإكتفاء الذاتي.  و هذه الحركة/الأفكار شكلت مرجعية نظرية خصبة للثورة الفرنسية ومن ثم للثورة الأمريكية، بل لا يمكن فهم الحداثة دون الاطلاع على  مبادئ فكر الأنوار. لذلك، نجد بأن رهط كبير من الذين ينتقدون الحداثة أول ما  يواخذونه عليها هو نزعتها "العقلانية" ذات الاصل الأنواري؛ حيث أستحال العقل إلى مرجعية قوية في المشروع الحداثي الغربي و مبدء من مبادئه، و جرى الإرتكاز على العقل لا في المعرفة فحسب، إنما في الدوائر و النظم الإجتماعية و السياسية و القانونية و التكنولوجية...و تبعا لهذا تبدت ملامح حديثة في تصور العالم و الإنسان، إذ ليس في مشروع الحداثة العقلانية الكلام عن "مشروع إلهي" يحكم المملكة الإنسانية، انما بث احكام العقل و توزيعها في قطاعات الحياة المتنوعة. (1) و هذا التأليه للعقل و الإنسان أدى إلى هيمنة العقل الأداتي/الإجرائي و هو عقل لا يعير أي اعتبار للغايات و القيم، و في النهاية تحول العالم إلى "مادة إستعمالية" أظهر حقيقة عقل الأنوار البشع و الشرير !
سيكون من السذاجة إنكار الحملة الإستعمارية التي قادتها الدول الغربية على العالم العربي-الإسلامي و باقي العالم، بل فرنسا التي كانت بثورتها السياسية شعارا  لافكار لأنوار و الحداثة، تحولت إلى مستعمر غاصب؛ فعندما احتلت فرنسا الجزائر 1830 ايذانا ببداية موجة الاستعمار العالمي، كان  رفاعة الطهطاوي يتأهب للعودة من باريس متأبطا مشروعا حديثنا طموحا، كان مشروعه، و الذي بسببه لقب بمؤسس النهضة العربية الاولى... في نفس الوقت الذي فتحت فيه مصر ذراعيها لرياح الحدثة الباريسية، كانت باريس لا تكفي فقط باقتراف المجازر في العاصمة الجزائر و القسطنطينية و إتما كانت تدعم و تسند العناصر الأكثر تقليدية و محافظة داخل المجتمع المغاربي من (بشاوات، القواد، الاعراف القبلية...) (2). فهل فعلا وجه فرنسا الذي أظهرته في مستعمارتها هو حقيقة عقل الأنوار؟  هل  أفعال الإبادة الجماعية و التهجير و الإستيطان هو الوجه الأخر لفلسفة الأنوار ؟
كمحاولة للاجابة على هذه المفارقة،اضع فرضية مفادها  أن مثاليات الأنوار مثل العقل و الحقيقة و العدالة و الحرية تم الإنحراف عنها بل و وؤدها ليلة إنتصار الثورة الفرنسية، فاذا كانت فرنسا بإعلان حقوق الإنسان والمواطن سنة  1789 الصادر عن الجمعية التأسيسية الوطنية و الذي أقر في  المادة الأولى على أن «الناس يولدون أحرارا ويظلون أحرارا متساوون في الحقوق ...» فان سلوك فرنسا الاستعماري بعد نجاح الثورة كان مخالف له، بل جاء في البنذ الاول لاول دستور فرنسي عقب نجاح الثورة و قبل إسقاط الملكية، أن فرنسا "مملكة غير قابلة للتجزيء". و بعد سقوط الملكية كانت البنود الاولى لدساتير 1793  و 1795  و 1799، تتفق على أن "الجمهورية غير قابلة للتجزيء" (3). و رغم ادعاءات  فرنسا بأن هذه مبادئ كونية، لكنها في حملتها الإستعمارية بالمغرب مثلا انحرفت عن  التزامها  باحترام السيادة  من خلال الظهير البربري و اثارة النزعات العرقية و الطائفية في المستعمرات الأخرى، فضلا عن الابادة و الاستيطان في الجزائر.
بل إن الردة عن مثاليات الأنوار لم تكن فقط على مستوى العلاقات الخارجية بين هذا الغرب المتحضر و العالم الإسلامي المنحدر و باقي المجتمعات، إنما سبقتها ردة داخلية بين رواد الثورة أنفسهم. حيث تم تصفية الكثير من المعارضين لمنحى الثورة العنيف و اتهامهم بالخيانة، مثل ((كوندورسيه)) الذي ولد سنة 1743م و أنتخب عضوا فى الجمعية التشريعية التى حكمت فرنسا من أكتوبر 1791م إلى ديسمبر 1792م، لكن الأهم في سيرته أنه هو و ((توماس بين))، كانا أبرز الشخصيات فى اللجنة الثمانية المكلفة بصياغة مسودة الدستور الفرنسى عام 1793م. لكن المسودة التى قدمها هو و((توماس بين)) للمؤتمر الوطنى الذى سيطر عليه اليعاقبة، أثارت جدلا عنيفا عند مناقشتها إنتهى بالرفض. وفضلت عليها المسودة الأكثر تطرفا... و توقف العمل على صياغة الدستور الجديد بسبب أحداث القبض على الملك ومحاكمته وإعدامه.  وكان ((كوندورسيه)) يعارض الوضع القانوني للمؤتمر الوطني في محاكمة لويس 16، ويشجب فى نفس الوقت مبدا عقوبة الإعدام بصفة عامة. و بالتالي تم إتهامه بالخيانة العظمى ومعاداته للجمهورية، وفى 8 يوليو 1793م، أمر المؤتمر الوطنى بالقبض عليه. إستمر ((كوندورسيه)) فى مخبئه مدة 9 شهور إلى أن تم القبض عليه وتسليمه للسلطات، و وجد ميتا في زنزانته وحيدا و ما تزال الشكوك حول سبب موته، هل بتجرعه للسم او بسبب السلطات؟  و  الامر ذاته فعل بزعيم نادي اليعاقبة المتطرفة في الجمعية الوطنية الفرنسية ((جورج دانتون)) الذي اتهم  بالتآمر لاعادة الملكية،  فقطع رأسه على المقصلة في 1794م بتزكية من معارضه ((ماكسميليان روبسبيار)) و الذي ستكون له ايضا نهاية مأساوية من معارضيه كذلك من رجال الثورة حيث انهوا حياته على المقصلة بباريس في 1794. اذن في هذا الجو المتسم بتصفية الحسابات بين رجالات من أوقدوا شرارة الثورة و السعي نحو جمع غنائمها و الاستفراد بها، هنا ضاعت و أقبرت سرديات عقل الأنوار من: عدالة، مساواة، اخاء، حرية و عدل.
و بالتالي، سيكون من التجني اتهام عقل الأنوار و فلسفته، بأنهما السبب في النزعة الإستعمارية و ما أعقبها من جرائم إبادة و غزو و إستيطان. كما أن المشاكل البيئية (ثقب الأزون، ذوبان القطبين...) و الإقتصادية  (استغلال ثروات الشعوب النامية...) و السياسية (إسقاط الثورات، دعم الانقلابات العسكرية...) إلخ، بعيدة كليا عن سرديات الأنوار و قيمه الإنسانية و المعيارية  التي لا يختلف عليها إثنان. و عليه ليس من الصدف أن نجد فيلسوف مثل هابرماس من أشد المدافعين عن مركزية العقل كفاعلية،  وعن  مشروع  الحداثة الذي يعتبره غير مكتمل.
نستطيع اذن، أن نخلص أن العقل الأداتي ما هو إلا أنحراف عن مبادئ عقل الأنوار، و لا بد من التخلص من  الانكسارات التي حصلت في مشروع الحداثة. و لا يجوز لنا الإستخفاف بثمرات عصر الأنوار و مكتسبات الثورة الفرنسية خاصة من الناحية السياسية، فتاريخ علاقة العالم الغربي بالمشرق يحكي قصة خذلان غربي لقيمه الأصلية  التي يستمد منها تاريخه و مشروعية تفوقه. كما الاعتقاد السائد بأن الحرب العالمية الاولى و الثانية كانتا "نعيا" لأوهام الأنوار و فشلا لسرديات لاهوت جديد اسمه (العقل) بشر بفردوس ارضي، فذلك مجانب للصواب بل هما إشعار لعملية "وأد" و ردة على  أماني وردية و غايات إنسانية.



(1) قوة القداسة: تصدع الدنيوة و استعادة الدين لدوره، الفصل الثاني: وحدة العقلنة و العلمنة في مشروع الحداثة الغربية، المفكر الجزائري عبد الرزاق بلعقروز.
(2)و (3) أسطورة الأختيار العلماني، الباب الثالث: مطارحات في العلمانية كواجب اخلاقي، الفصل:  من العدمية الى التكبير، ص 122/104

(4)كوندورسيه - خاتمة فلاسفة التنوير الفرنسية، الحوار المتمدن 2009 / 3 / 2، محمد زكريا توفيق

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

محمد عابد الجابري: "ناقد" العقل العربي

في ذكرى رحيله: سمر فكري مع الشهيد حسين مروة

سؤال الدين و الحرية ؟