الغرب في مخيالنا: الجزء الاخير
لم يكن في نيتنا كتابة هذا الجزء الثالث من المقالة، بل فقط الاكتفاء بالجزء الثاني. لكن عمق الأشكال فرض علينا ضرورة كتابة هذه الأسطر قصد بسط الخلاصة بشكل أوضح. و من هذا المنطلق أعيد التأكيد على أنه لا يجوز الانزلاق في نفس الخطأ المعرفي الذي يقع فيه الكثير من المثقفين المدافعين عن المقدس، الذي يزعم مقارنة الإسلام و ترسانته المفاهيمية المعيارية (التراحم، الاستخلاف، المدافعة، الاحسان....) مع الفكر الغربي الحداثي الذي يستند على ملفوظات طبيعية مادية ذات إيحاء عنيف (الصراع، السيطرة، الغزو، التعاقد....) و تفضيل الأول على الثاني. فكلاهما نمط من التفكير مغاير للآخر و ضروريان، و الطابع المادي الذي يتصف به الفكر الغربي يوحي بأنه يدرس "المشترك" بين الحيوان و الإنسان، باعتبار هذا الأخير امتداد للأول بفعل التطور. اما الإسلام فهو يبحث في "المميز" بينهما؛ و ليس هذا إقرار ضمني بأنه لا يعترف بحيوانية الإنسان، بل لأن دور الدين هو الأخذ بيد الإنسان إلى السماء(ما يجب أن يكون) لا إلى الأرض (ما هو كائن). فالدين يطلع بمنح "المعنى" في عالم لا معنى له، وبتقديم جواب عن سؤال معلق هو سؤال "الغاية" من تراجيديا الوضع البشري؛ فالإنسان من حيث هو الكائن الوحيد الذي يحيا مع فكرة الموت، ومع الأموات، ومن حيث هو المتناهي الوحيد الذي يملك فكرة عن اللامتناهي، يمتلك شكل وجود "تراجيدي" بالضرورة، وهو في وضعه المتوتر هذا، الذي يجعله خيطا مشدودا بين عدمين، يحتاج أن ينتج سندا يمنحه المعنى، وهذا ما لا يضطلع به، قياسا إلى العدد الأكبر من الناس، إلا الدين(1)، و هذا ما أكده المفكر علي عزت بيجوفيتش في قوله أن الدين يقول للانسان: أنظر ماذا يفعل الحيوان و افعل عكسه؛ انه يفترس فيجب أن تصوم، انه يتفاسد فيجب أن تتعفف، انه يعيش في قطيع فحاول أن تعيش متفردا، انه يسعى إلى اللذة و يهرب من الألم، فعليك أن تعرض نفسك للمصاعب. باختصار، الحيوانات تعيش بأجسامها، فعليك أن تعيش بروحك. (2)
و إذا كنا قد وجهنا عتابا شديدا للعالم الإسلامي، كونه بقي في سماء "الواجب" و لم تطأ أقدامه أرض "الواقع". فمن باب الإنصاف توجيه عتاب ثاني للفكر الغربي هذه المرة، و هذا العتاب ليس من قبيل إرضاء الخاطر بل لما يؤكده الواقع المعاش. لكن، أولا لابد من الاعتراف بأن الغرب وفق إلى حد بعيد في تفسير الواقع و حل جزء كبير من أحجيته المعقدة، و فهم الإنسان و تحديد بعض دوافعه الغريزية و فك شفرة تصرفاته. لكن هذا الاستغراق في الواقع نتج عنه ضمور للواجب، مع استحضار بعض الأصوات التي جمعت بين الاثنين و أعلت من مكانة الواجب، و هنا يحضرني الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط و فلسفته الأخلاقية التي تعتبر طفرة في تاريخ الفكر الغربي، بل وصفها الفيلسوف يورجين هابرماس بأنها إحدى المرجعيات الكبرى للاخلاق النظرية في عصرنا( 3). فصحيح أن الفكر الغربي يطغى عليه العقل العملي (ما هو كائن)، غير أنه لا يخلو من العقل النظري (ما يجب أن يكون)؛ و قد عرضنا في الجزء الثاني من المقالة نظرية الفيلسوف الأمريكي راولز "العدالة كانصاف"، بالإضافة إلى ذكرنا في الجزء الأول من المقالة لحالة الطبيعة الهوبزية و التي أفرزت "نظرية التعاقد" و "الديمقراطية" كواجب لتجاوز الواقع الذي يطغى عليه الصراع و الذئبية. فالديمقراطية ليست إلا نظام يقر بتناقضات المجتمع والدولة، لكنه يديرها في إطار من السياسة السلمية و توازن المصالح فهي وسيلة لعقلنة السيطرة (4).
إذن، إذا كان العالم الإسلامي حالما في سماء الواجب، فإن الغرب ما يزال غارقا في وحل الحقيقة. و كما أن الأول مطالب بالنزول من سماءه، كذلك يجب على الثاني الخروج من مستنقع الحقيقة؛ فتنامي الوضعية و البرغماتية و النزعة الفردانية كلها توحي بإستغراق الغرب في طرح سؤال الواقع. لهذا فقد انتبه المفكر علي عزت لهذه الفكرة، حيث اعتبر أن العدمية ليست إنكارا للألوهية (الواجب)، و لكنها احتجاج على غيابها (5)، بمعنى طغيان العقل العملي و احتاج على قلة الاهتمام بالواجب. و في نفس السياق يمكن فهم افكار رواد مدرسة فرانكفورت في نقد (العقل الأداتي) الذي يسقط في انعدام الزمن و التاريخ، و يصبح العقل الاداتي بذلك قادرا على شئ واحد فقط هو قبول الأمر الواقع و التكيف مع الوقائع و الأحداث القائمة (6)، و لتجاوز عيوب هذا (العقل الأداتي) يقترح هابرماس ما سماه ب (العقل التواصلي). و تلخيصا لهذا الجزء ومن المقالة و الأجزاء التي سبقته، سنقول أن أن آية محاولة لتغيير الواقع لا بد لها أن تستند إلى نمطين من التفكير: النظري (ما يجب أن يكون) و العملي (ما هو كائن)، مع أسبقية الأول على الثاني لانه هو من يمكننا من استيعاب و احتواء الواقع ثم تجاوزه.
(1)عادل حدجامي: الديـن؛جدل الحقيقة والوظيفة، الكاتب المغربي، مؤسسة مؤمنون بلا حدود.
(2).(5) علي عزت بيجوفيتش: كتاب الإسلام بين الشرق و الغرب.
(3)جاكلين روس: الفكر الأخلاقي المعاصر، ترجمة العوا.
(4) الحداثة و خطابها السياسي، يورجين هابرماس. (6)هابرماس: تيودور أدورنو، ترجمة حسين الموازني، مجلة عيون لبنان العدد الأول
تعليقات
إرسال تعليق