الغرب في مخيالنا: الجزء الثاني
كنا قد أشرنا في الجزء الأول من المقالة أن العقل العربي وقع في سوء فهم الآخر(الغرب)، و بالخصوص الأطروحة الرائجة التي تدعي أن الحضارة الغربية أقصت الاله في تفكيرها، و أصبحت مفعمة فقط بقيم عدوانية تساوي الإنسان بالحيوان. بينما الحضارة الإسلامية فيها فائض من القيم و المثل و السرديات الكفيلة بإخراج الإنسان الغربي من عالمه الميكانيكي المحكوم بالصراع و القوة، إلى عالم مليئ بالروحانيات و التراحم. و أوضحنا أن هذه الأطروحة ناتجة عن جهل بنوعين من العقل: النظري و العملي.
فقد ارتبط التفكير الفلسفي عموما بقطبين أو بعقلين؛ عقل نظري يدرس العلل و الماهيات، و هو الذي إتصل عضويا بفعل التفلسف منذ بداياته الأولى مع سقراط و أرسطو و أفلاطون. و هو عقل انصب جل عمله على استقصاء للاسئلة الوجدان و المعنى، ما يفيد أنه محصور في دائرة ما يجب أن يكون (Ought). و من مميزاته أنه ينتج خطاب [وعظي خبري]. بينما العقل العملي يدرس التاريخ و الواقع، و مهمته اجتراح مناهج لتدبيرهما و إيجاد وسائل لتطويعهما. و قد بدأ الاهتمام بهذا النوع من النمط في التفكير بعد فترة وجيزة من التاريخ الإنساني، و هو السمة الطابعة للفكر الفلسفي المعاصر(1). و يشتغل في دائرة ما هو كائن (IS)، اي انه عقل واقعي حدوده تنتهي عند وصف ما هو موجود بدقة و موضوعية، فهو خطاب [وصفي واقعي].
اذن، يتضح لنا من خلال تمييزنا بين نمطين من التفكير، أن النزعة المادية التي تركز على قيم الطبيعة ليست بالأمر الغريب و الشاذ، لأن الفكر الغربي الحداثي امتداد للعقل العملي الذي يجعل من مهامه وصف الواقع و التركيز على ما هو كائن، على سبيل المثال الإقرار الهوبزي بحالة الطبيعة و ان الإنسان ذئب لأخيه الإنسان ليس من باب الترف الفكري، و ليس دعوة من هوبز للانسان في أن يتقمص دور "الذئب" مع أخيه الإنسان. بل هوبز قام بمعاينة الواقع و ما يوجد فيه، و استنتج أن الإنسان في أصله ينتصر لذاته و يسعى فقط لجلب مصلحته الفردانية، و درء مفسدته، و هذا جوهر التوجه البرغماتي النفعي. إذن هوبز حصر دوره في وصف و تفسير الواقع. كما أن إقرار ماركس بالصراع الطبقي كمحرك للتاريخ ليس رجما بالغيب، بل نتيجة قراءة وصفية لتاريخ المجتمعات الأوروبية لبلوغ حقيقة الواقع التي تؤكد أن هناك صراع بين ضعفاء القوم (البروليتاريا)و سادته(البورجوازية). كما أن التركيز على "غزو الطبيعة" أمر واقعي، فالإنسان هو ابن الطبيعة العاق، حيث كان فيما مضى خاضعا لقوانينها، لكن استطاع اليوم التمرد و السيطرة عليها لحماية نفسه من عادياتها. فالذي يحكم الطبيعة هو منطق الغلبة و البقاء للأقوى كما أكد داروين، فالإنسان لن يضمن بقاءه إلا بعد إحكام السيطرة على سلوك الطبيعة و إخضاعها للمنهج التجريبي. و في المقابل، يمثل الإسلام كمرجعية العالم الإسلامي العقل النظري، حيث أن هذا العقل دوره تنبيه الإنسان بضرورة تجاوز واقعه الأولي بالتعبير الهيغلي. لهذا نجد أن القرآن لا يهتم كثيرا بوصف الواقع و ما يوجد فيه، بل بالنظر إلى ما وراء هذا الواقع. و من هذا المنطلق تأكيد نبي الإسلام أن مهمته تكمن في "إتمام الاخلاق" لا في "وصف الواقع" في قوله: {انما بعث لأتمم مكارم الأخلاق} و {الدين النصيحة}. مع أن القرآن قد لا يخلو كليا من آيات تصف الواقع، غير أنها عرضية. كما لا يمكننا الجزم بشكل مطلق على أن فقط الإسلام هو من يهتم "بما يجب ان يكون" و بالقيمة، بل كل الأنساق الايديولوجية و الأديان السماوية و الأرضية تشترك معه هذا النمط من التفكير، بما فيها الميتافيزيقا و الفلسفة.
و عليه، نكون قد خلصنا إلى نتيجة مهمة، مفادها أن أي مقارنة تفضيلية بين النمطين من التفكير و العقلين هي مقارنة باطلة في أصلها، لأنهما يختلفان من حيث الموضوع و الهدف. بل و لا يمكن حتى تفضيل عقل على اخر، لأنهما ضروريان؛ فقبل محاولة وعظ الناس بفعل "الواجب"، لا بد من فهم "الواقع" حتى نستوعب هذا الإنسان، و نتساءل: ما هي هويته؟ كيف يفكر؟ و كيف يتصرف؟ و ما هي الدوافع المحركة له؟ و عند بلوغ أجوبة لهذه الأسئلة، بعدها نشرع في وعظ الإنسان، و نتساءل حول: ما يجب عليك أن تفعل؟ ما هي واجباتك؟ ما هي حدود تصرفاتك؟ أين تنتهي مصلحتك الذاتية؟
و لنضرب مثلا بنظرية "العدالة كإنصاف" للفيلسوف الأمريكي راولز؛ حيث تعتبر امتداد للفلسفة الأخلاقية الكانطية، فقبل أن يقدم راولز رؤية "لما يجب أن يكون/الواجب" استهل نظريته بوصف و تفسير "لما هو كائن/الواقع"، في تأكيده مثل هوبز لوجود وضعية أصلية تتسم بالصراع و تضخم الانا و التفكير اللاعقلاني(حالة الطبيعة الهوبزية). و لتجاوز هذا الواقع قدم نظريته للانتقال لحالة الثقافة التي يتم فيها مقاومة التفكير اللاعقلاني و الفرداني، لكن راولز يطرح بعدا جديدا في نظريته، ما اسماه حجاب الجهالةla voile d'ignorons. بالتالي، المأزق التاريخي الذي وقع فيه المسلمون هو بقاؤهم في نسق العقل النظري و ظلوا يسبحون بين المثل العليا و في سماء الواجب، دون فهم للواقع و النزول إلى أرض الحقيقة. و لهذا السبب نلاحظ استفحال ظاهرة "الوعظ و الارشاد" في مجتمعاتنا دون أن يكون لها أي مفعول واقعي، فقط هواية كلام و إلقاء لخطب إنشائية عصماء. دون التفكير في فهم الواقع و ما فيه.
و النتيجة الواقعية لهذه الازدواجية هي أن الوعظ يجعل الناس شديدين في نقد غيرهم (الغرب/العقل العملي)، فالمقاييس الأخلاقية التي يسمعونها من أفواه الوعاظ عالية جداً. وهم لا يستطيعون تطبيقها على أنفسهم ، فليجأون إلى تطبيقها على غيرهم ، ولهذا يكون نقدهم شديداً. (2)
بالتالي، فالمسلمون مطالبون بالنزول من سماء الواجب و المثال، و الغوص في و حل الواقع و الحقيقة. و هنا دور العلوم الإنسانية في دراسة الواقع و تفكيك بنيته بغية استعابه ثم التفكير في تجاوزه.
___________________
(1)مقالة، يورغن هابرماس: عقل الحداثة و وعد السعادة، بقلم عادل حدجامي، صفحة أفاق فلسفية.
(2) وعاظ السلاطين، المفكر العراقي علي الوردي.
تعليقات
إرسال تعليق