لمـاذا الـديــــــــــن ؟
لم يجانب المؤرخ الاغريقي "بلوتارك"
الصواب لما قال: "من الممكن أن تجد مدن بلا أسوار و بلا أدب و بلا مسارح، و
لكن أحد لم ير قط مدينة بلا معبد". فمن الصعوبة فهم عمق هذا الكلام إلا عندما نفهم
طبيعة تلك العلاقة العضوية الموجودة بين الدين و الإنسان، و قد حاولنا في مقالتنا الأخيرة (ما الإنسان) إستكشاف
الطبقات المكونة لهذه الذات المركبة، و خلصنا إلى أنه الإبن البار للطبيعة و منشأه
الأصلي هو (دائرة الطبيعة)، ثم بعدها تمرد على فطرته و إستقر في (دائرة القيمة)، و
الصراع بين هاتين الدائرتين هو الذي يشكل لنا ما نسميه بالإنسان على شكل وحدة أضداد.
و ختمنا كلامنا بسؤال رئيس و هو كيف ننتقل من "الانسان الطبيعي/الأولي" إلى
"الإنسان التجاوزي"؟ و بتعبير أدق، كيف يمكن للمصطلح القراني "الـكــدح" أن يساعد الإنسان في
أن ينهى نفسه عن الهوى (دائرة الطبيعة) و يبلغ جنة المأوى (دائرة القيمة) ؟
صحيح أن الإسلام اعترف بالإنتماء الطبيعي الأولي للإنسان، و أنه
تجاوزه في لحظة النفخة الإلهية، لكنه كذلك أقر بضعفه أمام إنجذاباته الغريزية (وَخُلِقَ
الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا )، وكثيرا
ما تراوده هواجس الإنفرادية و الطبيعة. و عليه، فمحور الإشكال هو حول الضمانة
المثلى لتهذيب هذه الهواجس و الوساوس حتى لا يرجع الإنسان إلى حالته الأولية. و
هنا يبدأ دور الدين؛ فعلماء الإجتماع
اكتشفوا هذه الحقيقية و تحركوا من موقع التأييد لها و توكيدها، ثم جاء بعد ذلك
علماء النفس و الإجتماع و أكدوا هذه الحقيقة أيضا، مثل نظريات فرويد و يونغ من
علماء النفس، فالشي المهم في هذه النظريات السيكولوجية هو أن الإنسان من حيث الروح
و النفس موجود عار مستورة بشيء، فلدينا رغبات كثيرة، و في المقابل يوجد هناك من يمنع
التحرك لإشباع هذه الدوافع من قبيل القيود و الأداب الإجتماعية، فالإنسان في
طبيعته غير مؤدب، و لكنه عندما يدخل معترك الحياة الإجتماعية و يجد نفسه محتاجا
إلى الأخرين و مجبورا للعيش معهم فإن ((الأنا الأعلى)) سوف تبدأ بالظهور، و هذه
الأنا الأعلى هي التي تتولى تنظيم رغبات النفس و كبح جماحها و تقييدها بالقيود في عملية
التطبيع الإجتماعي و التخلص من الوحشية. (1)
إن الدين –بشكل عام و ليس الإسلام- جاء من أجل أن يهذب هواجس الحياة الأولية حتى لا
تتطغى على الإنسان، فالدين هو الذي يقوم بضبط و رسم الحدود بين دائرة الطبيعة و
دائرة القيمة، و يضمن التوزان و عدم العودة إلى الوحشية. كما انه يحاول الإرتقاء
به في سلم الكمال الإنساني و يعيش حياة كريمة و لا يتصرف كما كان عليه في السابق،
فالأخلاق التي جاء بها الدين هي التي تساعد الإنسان لأن يتحرك في خط التأدب و كبح
جماح الشهوات و التحلي بالتقوى في حركة الحياة الفردية و الإجتماعية. فالتقوى
كمفهوم ديني في الإسلام يعني الزجر و وجود الضابطة الداخلية الباطنية (2)،
و أمام هذا يبقى جوهر الدين هو تحرير
الإنسان من عودة هواجسه الأولية الغريزية، و كل الأمور الأخرى من عبادات و أحكام
قانونية و حدود شرعية ليست سوى عرضيات و هوامش، تهدف إلى بلوغ الهدف المذكور عن
طربق تنظيم الحياة الجماعية.
إذن، و جوابا على السؤال السالف طرحه في
مقدمة المقالة، فالدين أمر الإنسان بالإعتقاد بجملة من السرديات كي يتم ضبط
ميولاته الغريزية و ينظمها وقف ما سماه المفكر الجزائري مالك بن نبي ب((عملية
شرطية))؛ أي تنظيم الغرائز في علاقة وظيفية مع مقتضيات الفكرة الدينية، في هذه الحالة يتحرر الفرد من قانون الطبيعة
المفطور في جسده و يخضع في كليته إلى المقتضيات الروحية التي طبعتها الفكرة
الدينية في نفسه، و يبدأ فيي ممارسة حياته حسب قانون الروح(3). و هذه
المقاومة للإنجذابات الطبيعة و مجابهتها و
التطلع إلى التعلق بالسماء هو ما أطلق عليه القران ب الكــــــدح في قوله تعالى ( يَا
أَيُّهَا الْإِنسَانُ
إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ). و عليه، فالإنسان في حاجة إلى ناظر باطني أولا
و هو (الله)، فهدف الأنبياء في الأصل هو أن يعيش الإنسان و المجتمع حالة الحضور
الجدي لله في الواقع الإجتماعي (يَا
دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ
وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ)، و بالتالي، فالهدف الأساسي للدين السماوي و لدعوة الأنبياء هو
تحرير الإنسان من الجوانب المادية و الدنيوية و نقله من دائرة الطبيعة (الهوى) إلى دائرة القيمة (جنة المأوى) في قوله تعالى (وَأَمَّا
مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَىٰ).
(1)،
(2)عبد
الكريم سروش، كناب "الدين العلماني"، المقالة الأولى: الدين و المجتمع المدني، ص 17،
ترجمة أحمد القبانجي
(3)
مالك بن نبي، كتاب 'شروط النهضة"، فصل: أثر الفكرة الدينية في تكوين الحضارة.
تعليقات
إرسال تعليق