ما الإنســـــــــــــــــــان ؟
إن أية محاولة و مغامرة فكرية تهدف البحث في
الظاهرة الإنسانية و التعمق فيها، لن يكتب لها النجاح ما لم تتجه نحو الأعماق من
خلال ممارسة فعل الحفر للوقوف عند الطبقات المكونة للإنسان. فتركيبة هذا الأخير
أشبه ما تكون بالتركيبة الجيولوجية
المتراكمة فوق بعضها البعض، و لا يستقيم فهم مكوناتها إلا بادراك شمولي كلي لمحتوى
جميع تلك الطبقات. فالإنسان مركز دائرة الإشكال الفلسفي، فكل موضوع يطرح على طاولة النقاش إلا و تكون أبعاده متصلة
به، فهو مفهوم حربائي لا يمكن حصر دلالاته
في بعد واحد.
و نظرا للاعتبارات السالفة الذكرة و المميزة
للظاهرة الإنسانية، سنحاول خوض غمار هذه المغامرة الفكرية و الغوض في أعماق هذا
"الكائن" متسلحين بحذر شديد و نفس عميق للحفر في أغوار طبقاته؛ فخصوصية
الإنسان تكمن في ذاته لا خارجه، فهو وحدة الأضداد و جامع للنقيض و نقيضه في الان
نفسه، و هويته مزدوجة و موزع بين
"دائرة الطبيعة" و دائرة القيمة". فهو مشدود إلى السماء (وفق
تعبيرسيد قطب) و في الان ذاته تجذبه الأرض و الطين، و حركته التذبذبية بين هاتين
الدائرتين هي ما أطلق عليه النص القراني ب ((الكدح)) في قوله تعالي [يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا
فَمُلَاقِيهِ]. لكن إلى حدود اللحظة لم ننفذ بعد إلى الطبقة السميكة
المكونة للإنسان، بل و لم نفهم بعد البعد "الأولي" و الاصلي لهذه الذات
المركبة. و بإستعارة المعجم الجيولوجي يمكننا التساؤل و القول: ما هي أقدم طبقة
جيولوجية في الذات الإنسانية ؟
لا شك أن كلما
توغلنا في أعماق الإنسان، إلا و تتسع دائرة الإشكال و تتعمق، و لعل النص القراني
كان موضحا لهذه الطبقة الأولية للإنسان، و أعترف بأن هويته الاصلية هي الهوية
البيولوجية/دائرة الطبيعة [وَخُلِقَ
الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً] و [وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ
مَسْنُونٍ] و قوله [ وَلَقَدْ
خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ]. لهذا فالإسلام اعترف بالإنتماء الأولي و الأصيل في
الإنسان، و نفس الفكرة أكدها الفيلسوف الكبير محمد إقبال حيث أعاد قراءة قصة هبوط
ادم من الجنة على ضوء فكرة الهوية البيولوجية الأولية في الإنسان؛ و يقول أن قصة
هبوط أدم كما جاءت في القران لا صلة لها بظهور الإنسان الأول على هذا الكوكب، و
إنما أريد بها بالأحرى بيان إرتقاء الإنسان من بداية "الشهوة الغريزية"
إلى الشعور بأن له نفس حرة قادرة على الشك و العصيان، و ليس الهبوط عند إقبال الفساد الأخلاقي، بل هو إنتقال الأنسان
من الشعور البسيط إلى ظهور أول بارقة من بوارق الشعور بالنفس و اليقظة من حلم
''الطبيعة'' (1)،
حيث يفرق إقبال بين مرحلتين في تاريخ الإنسانية؛ المرحلى الاولى التي كانت واقعة
تحت سيطرة الغريزة، و المرحلة الثانية عندما إزدادت قوة العقل و تغلبت على الغريزة
و حينئذ أصبحت البشرية تتحرك في خط الرشد و بقيادة العقل لا بقيادة الغريزة. (2)
من هنا، اعتبر
إقبال بأن معصية ادم [وَعَصَى
آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى] هي بداية تحكم "الشعور" لا
"الغريزة" في السلوك الإنساني، و أن تلك القبسة الإلهية الروحية [فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي] هي تدشين لمرحلة العقل، أو تلك النفخة الألهية هي بداية تشكل للهوية
الثقافية للإنسان التي ترفض الإنصياع و راء الغريزة. أي أنها تدشين للانتقال من
دائرة الطبيعة القائمة على العنف و الفردانية و الطبيعة [ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]،
إلى دائرة القيمة حيث منطق التوافق و الإجتماع و
الثقافة [يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي
سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ
اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ]. و بالتالي فالإنسان الأولي كما سماه
((هيغل)) كانت حياته قائمة على العنف و اللااستقرار أو كما سماها الفيلسوف توماس
هوبز ((حالة حرب الكل ضد الكل)) المتسمة بالتطاحن و الوحشية و الواقعية دفاعا عن
المصالح الفردانية و الغريزية، و تأكد لنا أن أقدم طبقة في الإنسان هي البيولوجية المادية الطبيعية، و بالتالي يبقى الرهان حول كيفية الإنتقال من الحالة
الأولية أو دائرة الطبيعة إلى حالة
الثقافة و دائرة القيم ؟ كيف يمكن للمصطلح
القراني "الـكــدح" أن يساعد الإنسان في أن ينهى نفسه عن الهوى و يبلغ
جنة المأوى؟ كيف ننتقل من "الانسان الطبيعي/الأولي" إلى "الإنسان التجاوزي"؟
(1) كتاب تجديد
الفكر الديني، محمد إقبال، فصل الألوهية و معنى الصلاة.
(2) كتاب بسط
التجربة النبوية، عبد الكريم سروش ص 255 فصل "خاتمية النبي"،
ترجمة احمد القبانجي.
تعليقات
إرسال تعليق