اللهم أرزقني إيـــمان ليسنغ لا إيمان العجائز








بعد إمساك عن التدوين زهاء ثلاثة أشهر للإلتزمات دراسية لا تترك الوقت الكافي للإنسان الخلوة بنفسه بغية التأمل و الاستكشاف المعرفي، كما أنه ما كانت عندي نية لأكتب أية مقالة، غير أن الذي أثار فضولي و دفع بأناملي كي تخط هذه الأسطر هو ما دار في نقاش بيني و بين ثلة من الأصدقاء في لقاء أسبوعي منصرم، أو ما يسمى في أدبيات الحركة الاسلامية -الجلسة التربوية-. حيث كان الدرس كما جرت العادة من إلقاء أحد الحاضرين، و في المداخلات ذهب بنا الحديث بعيدا عن الأرضية الأصلية للنقاش؛ حيث وجدنا أنفسنا في حديث على موضوع (الالحاد) و ما يطرحه من إشكالات.
تعددت المداخلات و تشعبت الفكرة أكثر فأكثر، و في حديثي عن "أصل الشر" كونه أهم الحجج التي يستند إليها الدهريون، باعتبار أن الاديان لا تقدم إجابة كاملة تكفي لطي إشكالية الشر في الوجود و كيفية تدخل الإله. إذ نجد إجتهادات الدهريين لتفسير و فك شفرة الإشكال المطروح، حيث ضربت لهم مثلا بنظرية "نيوتن"؛ كون الشر الموجود في العالم، و إنتشار الظلم على الحق في كثير من المواقع راجع إلى كون الإله رفع يده عن الأرض بعد أن جعل فيها قوانين فيزيائية تسيرها، و لا يتدخل نادرا الا للإحداث المعجزات. أي جعل الإله لاداعٍ لتدخله في الكون بعد الخلق، حيث يُعتقد أن كتاب المبادئ (Principia)، الذي وضع قوانين الحركة الثلاثة، جعل الإله كصانع الساعة، الذي صنعها ونظم الحركة بين تروسها وعقاربها، ثم تركها بعد ذلك لتعمل وحدها وفق ذلك النظام. فالملاحظ اذن، أن هذا التفسير  يقدم نسبيا إجابة مقبولة على سؤال الشر. بالرغم من أن للأديان أيضا إجاباتها؛ فقدت بذلت  الزرادشتية مجهودا لايجاد جواب لهذا الجرح الوجودي، و خلصت إلى أن الكون قائم على وحدة الأضداد و كل موجود يُرجع الى مَرجع يناسبه، و بالتالي فالخير راجع له الخير و الشر هو الاخر من اله الشر. أما في الاسلام فنجد أن الجواب الذي قدمه مرتبط بمخلوق اخر هو الذي يحمل وزر كل الشرور، و هو "إبليس/الشيطان"؛ بحيث نجده -حسب الإسلام- هو من يحث الإنسان على ارتكاب المعصية و إتيان الشر و اقتراف المنكر. لكن هذا التفسير يضعنا أمام مأزق اخر مرتبط بهذا المخلوق، حيث أنه أحيانا يوصف أنه  السبب في النسيان [و ما أنسانيه الا الشيطان ان أذكره] و تارة أنه العذاب و المرض [ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ]... لن أسترسل أكثرفي سرد مضامين مداخلتي بحيث أن ليس ما قلته هو المهم، بل الأهم هو تعليق أحد  الحاضرين أنه لا فائدة ترجى وراء هذه الأسئلة _المزعجة_ و عقل الانسان محدود و القران قدم لنا الجواب الشافي و الكافي، و رفع عنا حرج التفكر و التأمل و طرح مثل هذه الأسئلة. و ختم كلامه: "اللهم ارزقنا إيمان العجائز"
لا شك أن الكثير من الناس لا يجدون حرجا في اعتناق نفس فكرة صاحبنا، كما لا أخفيكم درجة انزعاجي من سماع هكذا كلام. لأنه يكرس لنوع من الطمأنية الزائفة في داخل الإنسان، و يشعره أنه قبض على الحقيقة. فكل ما اكتشفه العلم أو في طريقه لاكتشافه موجود عنده في كتبه الدينية، و أن تعارض النظريات العلمية مع معتقده راجع إلى ضعف العقل البشري في بلوغ حقيقة ما ذكر في المقدس. و هنا أضرب مثلا؛ فقد نجد أستاذ متميز و عالم في علم الأحياء، و قامة أكاديمية في وسطه العلمي. لكنه عندما يكون في مختبره و يرتدي وزرته يؤمن بأن نظرية "التطور" صحيحة، و يستند عليها لتأكيد  و التأكد من نتائجه التجريبية و المختبرية. و عندما يخرج من مختبره يجعل كل ذلك وراء ظهره، و يؤمن بنظرية "الخلق" التقليدية التي تتناقض مع نظرية أصل الأنواع. إذن، فهذا الشخص يعيش إزدواجية بين شخصيته "الدينية المحافظة" و "العلمية"، و يؤمن إيمانا جازما أن نظرية التطور بالرغم من أدلتها التجريبية خاطئة و ناقصة، و نظرية الخلق هي الصحيحة لانها مذكورة في المقدس. فبهذه السهولة يغلق قوس الإشكال و البحث عن الحقيقة، و يجعل من نظرية التطور وسيلة للعيش و الكسب المادي و مفروض عليه العمل بها. هذا مثال لحالات كثيرة في مجتمعتنا الذين يندفعون بسرعة لرفض و دحض النظريات العلمية لانها تتعارض مع معتقداتهم، و تغافلوا على أن ما يعتبرونه حقيقة مذكورة في المقدس لا يغذو أن يكون إفرازات المجتمع، وذلك لحفظ نسيجه وتقوية اًلأواصر بين أفراده و حفظ الهوية الاجتماعية. و الأهم أن جزء كبير من المسلمات هي إجتهادات بشرية قديمة  لتفسير المقدس. لو إجتهد و بحث لوجد بأن النظرية صحيحة.

جماع القول، إن المطلوب من الإنسان هو معانقة الأسئلة الوجودية و أن لا يقبل بأنصاف أجوبة على الجروح الوجودية. فأيسر الطرق للتخلص من وجع الشك و لقتل الحس التأملي العميق ، هو إقناع الذات بأن الإشكال المفكر فيه هو إعجاز علمي لا يعلم حكمته إلا الخالق. هنا فقط نبدأ في وضع حدود وهمية لعقولنا و نحد من قدراتها. و عليه، فالأصل هو الإتصاف بالروح الإستكشافية و المعرفية للفيسلوف ليسنغ لما قال: [لو جاءني الإله، يحمل في يده اليمنى «الحقيقة» كلها، ويضع في يده الأخرى «البحث الدائم عنها»، وطلب مني أن أختار بينهما، لسجدت له خاشعاً. وقلت:- مولاي، أعطني البحث عنها. أما الحقيقة فأنت وحدك جدير بها].

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

محمد عابد الجابري: "ناقد" العقل العربي

في ذكرى رحيله: سمر فكري مع الشهيد حسين مروة

سؤال الدين و الحرية ؟