الحركــة التلمذيـــة: نظرات في الفكــــر و المســــار
ليس من السهل الإحاطة بتاريخ الحركة التلمذية بكل تجلياته و شعابه الوعرة،
لكن تبقى فكرة توثيق جزء من هذه الذاكرة مشروع طموح، و إنجاز تاريخي ملئ
بالإكتشافات، بالرغم مما يصاحب هذا التاريخ من ضفاف للتعقيد و التعسير، و مناطق
اللبس و العتمة. فمن خلال السنوات الخمس الأخيرة من تجربة "الصحوة"،
ترسخت عندي قناعتان: الأولى أن ذاكرة الحركة التلمذية تحتاج إلى توثيق و تجميع،
لأنها لا تقل عن نظيرتها الطلابية. و الثانية أن العمل التلمذي من أهم مراحل تكوين
الإنسان، بالإضافة إلى العمل الطلابي و
دوره في بناء وعي نقدي تجاوزي لكل المسلمات السابقة. و للتذكير، فقد كانت غاية
المجلة هو إعادة الإعتبار لتاريخ المدرسة المغربية المنسي في المقررات الدراسية، و
إحساس التلميذ بمتعة الإطلاع على ماضي مدرسته و موروثها النضالي. و لم يكن بالأمر
اليسير تحقيق هذه الغاية و ليس بين أيدينا
الوثائق اللازمة المؤرخة لهذه الذاكرة. لذلك، فأهم إنجاز خلفته مجلة
"الصحوة" بعد هذه السنوات، هو نجاحها في تجميع ذاكرة الحركة التلمذية
بمدينة تيزنيت، التي تؤرخ لمجموع تحركات تلاميذ من أبناء الحركة،. و بالتالي، تكمن أهمية هذه المقالة في لفت الإنتباه إلى الأفكار
المؤطرة لعمل الحركة التلمذية بتزنيت خلال السنوات الفارطة، و تقديم تصورعن فكر
هذه الحركة التلمذية باعتبارها امتداد لحركة إجتماعية داخل الساحة التلمذية، و
أهمية هذه الأخيرة في بناء شخصية الإنسان.
/1 الحركة التلمذية: نظرات في الفكـــــــر
كما سبقت الإشارة، فإن هذا العدد من "الصحوة" خُصص لتوثيق العمل
التلمذي لأبناء الحركة الإسلامية منذ التسعينيات، و الملاحظ أن كل فترة إنفردت
ببصمة جيلها من حيث قوة العمل و التأطير، و هنا تجد الإشارة إلى أن هذه الفاعلية التي
تميز بها كل جيل عن أخر، هو الذي يظهر أهمية الإنتماء للحركات الإجتماعية؛ فالذي
جعل هؤلاء التلاميذ مختلفين عن أقرانهم، حاملين لهم الإصلاح و العمل داخل الساحة
التلمذية هو إيمانهم بقضية، و تعلقهم
بفكرة إصلاحية ترى ضرورة العمل و حمل هم الدعوة. و من هنا يمكن القول أن أهمية
الحركات الإجتماعية بمختلف توجهاتها (إسلامية – تقدمية – ليبيرالية...) يتجلى في
أمرين إثنين:
* صناعة القضية: إن الحركات الإجتماعية هي الوحيدة القادرة على ملأ الفراغ
الذي خلفته المنظومة التعليمية و الأسرة، فلأسف لم تعد المؤسستان قادرتان على تأدية
الدور المناط بهما، و بدل أن تصبح المدرسة ثدي المواطنة، أصبحت التربة التي تنبت
اللامعنى و اللامبالاة، بل و ترسخ تصرفات تتنافى مع سلوكيات المواطنة. و الأمر
نفسه في الأسرة، فعوض أن تكون محضن التربية على القيم، ظلت هي أيضا مرتعا
لإنحرافات سلوكية. إذ نجد أن المدرسة اليوم لم تعد تخرج الإنسان الذي يفكر في
معركة الديمقراطية وعدالة توزيع السلطة والثروة. بل القضية التي ترسخها
اليوم المدرسة في فكر التلميذ هي وهم "الوظيفة"؛ و هنا يلزمني توضيح لا
بد منه، فكي لا يفهم من كلامي أني ضد حلم التوظيف، الذي هو ثمرة جهد و عمل سنوات عديدة
من الدراسة، لكن لا يجب أن يتحول إلى القضية "الأصل" في هذا الوجود.
لذلك لم تخطئ المقولة التي تقول: "المدرسة توظف و لا تثقف"، فمن السهل
إيجاد موجزين في تخصصات علمية و أدبية راقية، لكنه يفشل عند كل محاولة نقاش فكري و
أحيانا يكون منسوب الفكر عنده مخالف لدرجة شهادته. أما بخصوص الأسرة، فالقضية التي
ترسخها في وعي التلميذ هي "التفوق الدراسي"؛ فمعظم الأسر تعتبر أن
التفوق لا يكون إلا بتصدر المراتب الأولى المتتالية في الفصل الدراسي، و تنظر نظرة
إشمئزاز لأية محاولة للمطالعة الحرة التي تخرج عن المقرر الدراسي، و قد تعيب هذا التصرف
من باب تضييع الوقت و الجهد.
و عليه، أمام هذه المعطى يستحيل أن ننتج نموذج التلميذ/الإنسان الذي يفهم
ماهية وجوده و دوره فيه، إلا من خلال الإنتماء لحركات إجتماعية تستنهض هممه و تثير
عوالمه الجوانية من خلال بناء قضية حقيقية أصيلة يناضل من أجلها. بدل تلك القضايا
المزيفة التي تعمق من أزمة اللامعنى و العبثية. و إني أرى المثال في نفسي؛ فالذي
جعلني أتميز عن أقراني و أقدر على أخذ الكلمة أمامهم، بل إلقاء محاضرات و عروض في
خزانة المؤسسة في حضرة كل المسؤولين التربوين و الإداريين دون خجل، هو أني تعلمت
ذلك من قبل في تكوينات و لقاءات داخلية. بل و أشهد أن مختلف أصدقائي الذي يملكون
وعيا سياسيا لا بأس به، و لهم زاد فكري لا يستهان به، كلهم ينتمون إلى حركات
إجتماعية.
* صناعة القدوة: نجد أن أزمة التلميذ اليوم هي غياب القدوة ، و هذه الأخيرة
نتيجة حتمية لغياب القضية الأصيلة. فالقدوة
هي التي تجعل الإنسان يواصل النضال من أجل القضية الوجودية التي يؤمن بها،
و هي التي ترسم الوجهة الصحيحة و تضبط البوصلة اتجاه القضية. بل غالبا ما تأتي
معظم الآيات القرانية التي تشبه الإنسان
بالحيوان في سياق غياب القدوة [ أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ
أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ ۖ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا ] و قوله [ مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ
ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا] و بالتالي
"فالأنعامية" مرتبطة بغياب القدوة، و الذي ينتمي إلى أية حركة إجتماعية
فغالبا ما يكون رموزها أو قياداتها التاريخية هم القدوة لأعضائها من أجل مواصلة الكفاح في سبيل القضية.
/2 الحركة التملذية: نظرات في المســــــار
قلنا سابقا أن الحركات الإجتماعية لها دور ريادي في خلق قضية و قدوة
للإنسان/التلميذ، و من خلال بعض تأملاتي في الحورات السابقة و كذا من تجربتي
الشخصية، يمكن القول أن الإنسان خلال إنتمائه لأي حركة
إجتماعية يمر عبر مرحلتين حاسمتين في بناء وعيه الفكري، و هما :
* مرحلة التأسيس (الأدلجة): بداية تشكل الوعي الخالص
في تصوري هي المتوافقة مع "العمل التلمذي" و تبدأ من الإعدادي إلى الثانوي، هذه المدة تكون فقط لترسيخ مبادئ و سرديات هذه الحركة
الإجتماعية (إسلامية أو تقدمية أو ليبرالية...)، فهي لحظة استيعاب أهم مضامين هذا
المشروع المجتمعي، حيث يطغى تأثير "الأدولجة" و يصبح الإنسان لا يفكر
إلا من خلال هذا النسق الذي يغذي وعيه بمصفوفة من
المفاهيم و المقولات، فهذا النسف الفكري يقدم الأجوبة الجاهزة لكل سؤال و
لا يبقى أي سؤال مفتوح، بل يحرص على أن يقدم إجابات نهائية. و من هنا يمكن فهم تلك
الحماسة التي طبعت كل التلاميذ الذي حاورناهم في مجلة "الصحوة"، وأن فاعلية
عملهم داخل المؤسسات التعليمية من (ندوات،
أسابيع ثقافية، مسابقات، بعثات، فرق إنشادية إسلامية، إئتلاف شباب التغيير...) ما
هو إلا تجلي لقوة الفكر و تأثير تلك الأدلوجة.
* مرحلة الإستقرار: بداية تشكل الوعي النقدي
عملية "الأدلوجة" هذه لا
ينبغي لها أن تستمر و تستغرق زمنا طويلا، فهي كما قلنا خاصة بالمرحلة الأولى من
تكوين الإنسان داخل أية حركة إجتماعية. فبعد مرحلة التأسيس و الإيمان العميق
بالأحلام الخلاصية للفكرة الإصلاحية، تأتي أهم مرحلة و هي مرحلة الإستقرار، و غالبا
ما تكون متوافقة مع "العمل الطلابي" لما له من طبيعة خاصة، فخلال هذه
المرحلة يبدأ الإنسان في بناء وعي نقدي تجاوزي لتلك الأماني التي أمن بها، و يضعها
تحت مدماك النقد و التأمل. و هنا يبدأ في التفكير خارج النسق الذي ظل وفيا له
بالماضي، و ينتقل الإنسان من الإيديولوجيا إلى الإيبستمولوجيا عن طريق إحداث قطيعة
معرفية مع الأفكار السابقة خلال مرحلة التأسيس، و يشرع في مراجعات. فالفترة
الطلابية لا يجب أن تكون إمتداد طبيعي للفترة التلمذية، من ناحية طريقة التفكير و
إدراك الأمور. هنا يجب على الطالب أن يعانق سماء النقد و الشك، و أن يثور على
مسماته لما كان تلميذا. فبالرغم من الدور الوظيفي للأدلوجة، لكن لا يجب التشرنق داخل يقينياتها بحسبانها ثوابت
عقلية لا محيد عنها، لان ذلك يأتي على الفكر بأوخم العقابيل. بل
هذه مرحلة وضع المثل و الأفكار موضع إرتياب و نسبية، و التأسيس لقراءة توليدية
نقدية، عن طريق التفكير الايبستمولوجي و الحفر عميقا في المسكوت عنه، و البحث المعرفي و تفكيك لطبقات الفكر و
بداهاته من أجل إعادة البناء والتركيب، ممّا قد يسهم في استحداث آفاق جديدة
للمعرفة.
جُماع القول، إذا، إن
الخروج من هذه العبثية و اللاغائية التي يعيشها الكثير، و التي تزيد في توسيع
دائرتها المدرسة و الأسرة، هو الإنتماء إلى حركات إجتماعية بغض النظر عن توجهاتها.
فالمهم هو أنها تخرج الإنسان من مأزق اللامعنى، و يبدأ في إكتشاف معنى أخر للوجود
من خلال إيمانه بقضية معينة، و هو ما يزال نشيطا داخل هذه الحركة الإجتماعية، يمر
عبر مرحلة الايمان بالمثل العليا للهيئة و
و استيعابها، ثم بعدها مرحلة التجاوز و المراجعات. و قبل الختم، وجب الإشارة إلى
أن هذه التحولات التي قلنا أن الإنسان يمر منها، لا تحدث بشكل آلي بمجرد الإنتماء
لأي حركة إجتماعية، بل لا تتأتى إلا من خلال تدريب الذات على التأمل و التمرد على
السائد و الموروث، فهو أمر يُبنى و لا يُعطى.
* مقالتي في العدد الخاص من مجلة "الصحوة" التلمذية.
تعليقات
إرسال تعليق