هكذا تكلم فرويد: أنا لست عالما ولا مثقفا ولا مفكرا، أنا فاتح!..
دخلت في نقاش مع أحد الشباب المتواجدين عندي على قائمة
الاصدقاء بسب بعض تدويناتي بصفحتي على موقع التواصل الاجتماعي -فيس بوك-، صديق لم
أكلمه يوما قط على الخاص، بل هو من خارج وطني -المغرب- ... و ليس المهم في هذه
المقالة الحديث عن مجمل ما دار بيننا، بقدرما يهم ردة فعله اتجاه تدويناتي التي وصفها "بالمستفزة" و أنها "حاجات ابليس ما نزلها.." -حسب تعبير صاحبنا- فليس هو وحده بل
هناك الكثير من الشباب من هم على شاكلته، إذ ما أن أشرع في تنزيل منشور يتناول بعض
القضايا اللامفكر فيها، إلا و تنزل تعليقاتهم بسيل من التهم المحملة بشحنة ايديولوجية عمياء. فما أغاظني هو أنه في كل مرة
يصرون ع منافشة الشخص و الابتعاد عن مضمون الفكرة، و أحيانا يرمونني بأني
"ملحد" و "علماني" و مستهزئ بالله و الدين" و
"شيعي"...فمع كل تدوينة تزداد
الصفة الجديدة التي يتم سكها. ليس في الامر ما يثير مخاوفي، لكنه أسلوب أقل ما يقال
عنه أنه جبان و يكشف المستور، كون أزمتنا بوطننا
العربي الاسلامي هي ضعف منسوب الثقافة و فضاءات للنقاش الفكري المتزن، القائم على تقبل الرأي الاخر المخالف في جو يسوده السجال الموضوعي و مقارعة الحجة بحجة أشد منها. بل ذهب الامر الى أني
حاولت الحديث مع احدهم على الخاص و رفض الرد على رسالتي -تهنئة العيد- شريطة أن أسمع لبعض الاشرطة و المحاضرات!! بعد هذا الموقف ادركت بان
معركه الاصلاح الفكري أصعب مما يمكن تخيله، أدركت العلة التي كانت من وراء الوقوف في وجه رواد الاصلاح في
تاريخنا، و كل من نعتبرهم في ثراتنا "غرباء". حينها فقط فهمت أن العقل
المسلم/العربي يضع لذاته حدودا وهمية، و يبني جدارا أمنيا من الوثوقيات و اليقينيات، و كل من تسول له نفسه
الدخول الي هذه المنطقة الامنية المحظورة، فمصيره الرمي بالقذائف الكلامية الفارغة من أي معنى مثل صاحبنا، و بالتهم الجاهزة كالكفر
و التمرد ع الله و دينه دون أن يقبل نقاش بينكما.
إذن، من خلال ما سبق يمكنني القول، أن دور المثقف في وطننا و مجتمعنا هو أن يخوض
معارك نضالية لإقتحام تلك المناطق
اللامفكر فيها في العقل المسلم، و أن يجتاز تلك الحدود الامنية، حتى يقدر على
تنفيد عملياته الفدائية بتفجير بعض القضايا المسكوت عليها و دخلت الى رفوف الماضي و أصبحت وثوقيات لا تقبل النقاش. إن دور المثقف هو تحطيم هذا الجذار الامني المشيد على جغرافية
العقل. و هذا ما قصده "نيتشه" عندما تحدث عن الفلسفه و قال: الفلسفة كما كنت قد فهمتها دائماً وعشتها تعني
أن تعيش في الصقيع فوق القمم...إنها
تعني أن تبحث في الوجود عن كل ما يجعلك تغترب عن نفسك وتطرح أسئلة على ذاتك ويقينياتك الحميمة...
لقد اكتسبت
تجربة طويلة من خلال اقتحامي للمناطق الممنوعة المحرَّمة، من خلال توغُّلي في الأعماق والأقاصي، هناك حيث لا يذهب أحد ولا يغامر مخلوق قط..
وعندئذ اكتشفت الأسباب
التي دفعت بالناس، وعلى مدار العصور، إلى تقديس هذا أو ذاك، وإلى رفعه إلى مرتبة المثال الأخلاقي الأعلى... واكتشفت فيما بعد أن المعيار الحقيقي
للقيم هو التالي:
كم هو مقدار جرعة الحقيقة التي يستطيع فيلسوفٌ ما أن يتحملها، أن يخاطر بها أو من أجلها؟ هذا هو السؤال الأساسي، وكل ما عدا ذلك تفاصيل ثانوية. "
لا أحاول ايجاد مسوغات لفلسفة
نيتشه العدمية، فلا أحد ينكر أسلوبه
البركاني الناري، إلا أن الشاهد في نص مقولته السالفة الذكر هو أن المثقف العضوي بتعبير –غرامشي- هو الذي يخوض مغامرات
فكرية، و يقدر على اقتحام المناطق التي فُرض فيها حظر تجوال بسبب الموروثات المحنطة.
فمهمة المثقف العضوي هي البحث عن الحقيقة
و القيام بحفريات عميقة للوصول إليها، حتى و لو كانت على حساب الذات. و بالتالي،
فمسـألة البحث عن الحقيقة هي مسألة جرأة إقتحامية لذاك كان "فرويد"
يقول: أنا لست عالما ولا مثقفا ولا
مفكرا، أنا فاتح! فصحيح، أن الإنسان نظرا لطبيعته يميل إلى الإطمئنان و تبني معتقدات حتى
لا ينهار فكره من الغربة و الشك، لكن لا يجب أن تتحول إلى يقينيات محنطة و إلى
دوغمائيات.
تعليقات
إرسال تعليق