دردشة في حصة التــــــاريخ


عيشنا على وقع نقاش عميق  يوم أمس -الاثنين- في أول  حصة لنا في مادة الاجتماعيات  بعد عطلة الاسدس الاول من السنة الدراسية، و كان من المقرر إنهاء أخر فقرة من درس التاريخ "اليقظة الفكرية في المشرق العربي بالقرن 19م"، و بالتحديد بعض مبادئ التيارات الفكرية التي عرفها العالم العربي و دورها في  اليقظة الفكرية بالمشرق.  توقف بنا الحديث عند التيار العلماني و أهم رواده، ففضلت الاستاذة فتح باب نقاش بسيط حول هذا الموضوع إلا اننا إسترسلنا في الكلام. و إستهلت حديثها بمقولة المفكر العلماني فرج فودة : [ أن يرفع رجال الدين شعارات السياسة ارهابا ويرفع رجال السياسة شعارات الدين استقطابا فهذا هو الخطر الذي يجب أن ننتبه له .. فإذا كنا نرفض تدخل الدين في السياسة فإننا أيضاً ندين تدخل السياسة في الدين .. إن تسييس الدين وتديين السياسة وجهان لعملة واحدة ] في كتابه  _ الحقيقية الغائبة_  كأرضية للنقاش بين التلاميذ مع العلم – أنها أبدت عدم تبنيها للموقف المفكر المصري -  و إنتقل بنا الحديث إلى الدولة المغربية كونها دولة إسلامية كما ينص الفصل الثالث من دستورها، إلا انها إستدركت كلامها متسائلة : فإذا كان المغرب بلدا مسلما فلماذا لا يطبق حكم قطع يد السارق؟
هذا مربط الفرس و جوهر النقاش، فليس موقف الاستاذة هو المهم، بل سؤالها الذي وجدت فيه نفسها أمام معطى واقعي محير هو الاهم. صحيح أن المغرب ينص على أن الاسلام دين رسمي،  إلا أنه  متأثر بشكل كبير بالثقافة الغربية؛  حيث نجد إزدواجية في الدستور بين الاعتراف بأن المغرب دولة "مدنية" و "دينية" في الوقف نفسه، فهو يمسك العصا من الوسط فلا هو مع الفكر العلماني القائل بفصل المنظومة الدينية عن الحياة السياسية كليا،  و لا هو مع التطيبع الكلي مع دعاة الفكر الاصولي القائل بخلط أوراق الدين مع السياسية. و أعطت المثال بأن المغرب يطبق القانون الجنائي على أسس غربية محضة و لا نكاد نجد بعض الاحكام و الحدود  (كرجم الزاني و قطع يد السارق و ...)  فيه بإستثناء بعض الاحكام والمسائل الفقهية. غير أن الذي أثار انتباهي هو جواب بعض زملائي في الفصل على السؤال السالف قائلا: لانه يتبع نظام صوفي و مذهب مالكي مسالم و منفتح ؟!! 
ذهب بنا النقاش بعيدا و دخلنا في متاهة جدوى تطبيق أحكام الشريعة (قطع اليد و الرجم...) و ضربت لنا الاستاذة مثلا بكل من "السعودية" و نسب السرقة و الاحتيال  و معدل الجريمة و منسوب القيم  عند المواطن السعودي بالرغم من الاعتماد على هذه المقاربة الزجرية، و بين دولة  "اليابان"  كدولة ذات توجه علماني و شعب متدين –ديانة وثنية-  و العقوبات التي تفرضها مختلفة، فإن الشعب الياباني اكثر تخلقا و التزاما بالقيم التي يدعو اليها النص في الاسلام.  مستطردت في كلامها : فإذا كان أتباع "بوذا"  أكثر تشبتا بالقيم الانسانية في عمقها، و نحن عباد  "الله"  نحاول  مجافاة العدل بالإلتزام النص. فأين يكمن الخلل ؟
و قبل بسط الكلام في بقايا محاور الدرس وجهت الاستاذة إنتقادا لاذعا لدعاة الفكر العلماني المتطرف حسب وصفها – الغير الاخلاقي- الذي يدعو الي الميوعة و الانحلال –حسب تعبيرها-  فإذا كانت العلمانية أفكار تحاول تجييش القدرات العقلية للانسان  و ترويض فكره  للبحث في القضايا المعاصرة و المستجدة،  فإن رواد الفكر العلماني بالعالم العربي في الوقت الراهن لا يرتكز على مواضيع اجتماعية الراهنة كالنظم الاخلاقية و تغيير نظرة المجتمع للمرأة بل على العكس يغالي في الدفاع على توجهات متنافضة مع أخلاقية المجتمع و هويته و مرجعيته، كالشذوذ الجنسي و الحركة النسائية ... مبدية أسفها على المستوى المتدني الذي وصل إليه الفكر العلماني من الانحطاط.  مخالفا لنهجه في القرن 19 الذي كان محفزا لظهور حركة فكرية و بعث ثقافي كان له الأثر قي إثراء المكتبة العربية.

لا أخفي عشقي لمادة التاريخ، و العلة في ذلك تكمن في ما تضمنته  مقدمة المقالة  من أمهات الافكار. فالاستاذ الحاذق هو الذي يقدر على  إخراج تلامذته من الفضاء النظري إلى الفضاء الموضوعي، فـأزمة منظومتنا التربوية تتجلى في أنها تقيد  التلميذ و الاستاذ في إطار مرجع/مقرر دراسي لا حياد عنه.  و هذا سبب النفور الملاحظ لدى رهط كبير من التلاميذ من مادة التاريخ لانه في نظرهم ملل على ملل. كيف لا و الاستاذ ينتقل بين (نصوص، خرائط تاريخية،خطوط زمنية...) و لا يقدر على فتح نافذة دردشة يطل من خلالها نحو العالم الواقعي. إننا بسلوكنا الشاذ هذا نفرغ الكلمة من مضمونها. فالتاريخ  مراة تنعكس عليها أمجاد الماضي  لفهم وقائع الحاضر و إستشراف معالم المستقبل، و هو ألية تمكننا من معرفة أسباب الافول و عوامل الانبعاث في كل الحضارات الإنسانية [ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ] "سورة عمران".  و ليس حكايات و وقائع تخط في نصوص تاريخية و معاهدات تكتب في جداويل.  يجب أن تسعى  المظومة التربوية  إلى تعميق الشعور الدافئ بالهوية  الحضارية  و حس الانتماء للوطن في نفس التلميذ المغربي فالمدرسة هي ثدي المواطنة . لكن للأسف منظومتنا  تجعل من مادة التاريخ فرصة لغرس قيم الانسلاخ من الهوية و السخط على الوطن كما هو في  شعارات بعض الهيئات الشبابية  -أولتراس- مثلا " فـي تعليم إكلخونا،بزرواطة إفكرونا،وعلى حقوقنا إمنعونا ويقمعونا.."  ومن هنا يمكننا بسط الاشكال والقول:  أي قيمة لمدرسة لا تربي في النفس قيم الانتماء للوطن؟  ما قيمة مدرسة لا ترسخ في الفكر ملكة النقذ و التأمل؟  أي دور لأستاذ لا يعمق حس النقاش و السجال في أوساط تلامذته؟ 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

محمد عابد الجابري: "ناقد" العقل العربي

في ذكرى رحيله: سمر فكري مع الشهيد حسين مروة

سؤال الدين و الحرية ؟