لماذا العلمـــــــانية ؟
يتسربل مصطلح "العلمانية" بغلالة
كثيفة من الغموض، وتتشعّب مدلولاته حتّى ليعسر على الباحث الإمساك بأطرافه. فكلّ
بحث يتّخذ من هذا المفهوم موضوعا له و يحاول صياغة تعريف حسب مزاجه كي يؤسس عليه
أطروحته؛ بين من يعتبرها مفهوم "مُغترب" نشأ في بيئة و إطار حضاري مغاير
لنا كيفا و نوعا، و بين من يعتبرها ضرورة "حضارية" للخروج من دوامة
التخلف و إكسير الحياة للنهضة المأمولة و المجهوضة.
من البداهة بمكان أن "العلمانية"
مفهوم أول ما ظهر كان في الغرب بعد الإصلاح الديني الذي عرفته أروبا، و الذي أدى
إلى فصل السلطة السياسية (الدولة) عن السلطة الدينية (الكنيسة) و لكنه عرف طفرات
مع توالي السنوات و تعددت دلالاته حسب كل
مجتمع و مستوى التقدم فيه، كما عرفت علاقة الدولة بالدين في الفضاء الأروربي حركة متذبذبة؛
من علمانية صلبة رافضة لأي حضور ديني و
لرموزه في الفضاء الخاص و العام على حد سواء، و تجلى بالخصوص في النموذج الفرنسي
اليعقوبي و هو ما أطلق عليها المفكر المصري عبد الوهاب المسيري "العلمانية
الشاملة" ، و علمانية مرنة مع الرمز الديني و تكون الدولة مركز الدائرة و على
نفس المسافة من كل المجموعات الدينية و هي حسب المسيري "العلمانية
الجزئية"، و علمانية توفيقية يحتفظ الدين بمساحات واسعة داخل الدولة، كما هي
حال الدنمارك حيث يشترط الدستور انتماء الملك إلى الكنيسة الانجيلية الوثرية
(المادة.7من الدستور)، كما هي حال النرويج حيث يشترط الدستور، فضلا عن الملك،
انتماء أكثر من نصف الوزراء إلى الكنيسة الإنجيلية اللوثرية (المادة 4 و 12 من الدستور). و قد يحتفظ الدين بمواقع محددة داخل المدرسة، كما هي
برامج تدريس المواد الدينية، التي قد تكون إما إجبارية كما هي الحال في إيطاليا أو
اختيارية مثلما هي الحال في بلجيكا و ألمانيا. (1)
جلي إذا، كيف أن العلمانية في واقع الامر
علمانيات، فهي مفهوم حربائي يتلون حسب الواقع السياسي و الإجتماعي لكل مجتمع، لذلك
يجب التمييز بين أمرين اثنين: العلمانية كفكرة تعني في أبسط معانيها محاولة للتفكير في النسبي بما هو نسبي وليس
بما هو مطلق ( كلام المفكر المصري رئيس الجمعية الدولية لابن رشد، الفيلسوف الدكتور
مراد وهبة)، و العلمانية كواقع و تاريخ يعني طبقات متعددة من التأويلات للفكرة
الأم، و التحققات التاريخية و السياسية لها. لذلك نجد أن الخلط الذي يقع فيه الكثر
من العامة الرافضين لدعوة العلمنة، و أهم مسوغاتهم هو أن عملية العلمنة هي تدشين
لعلمية نزع القداسة عن كل شي و فصل القيم و الغايات الأخلاقية و الدينية و الإنسانية
عن الدولة، و عن مرجعيتها النهائية، و عن حياة الإنسان. إنها تعني عندهم تحرر المجتمع و الثقافة من
الخضوع لوصاية الدين و الأنساق الميتافيزيقية المغلقة، العلمنة تطور "تحرري" و ثمرتها النهائية هي
النسبية التاريخية. و هكذا فان التاريخ
بالنسبة إلى العلمانيين عبارة عن سيرورة لتحقق العلمنة. إن العناصر المكونة
للعلمنة تتمثل في عدم الإنبهار بالطبيعة و تحرير السياسة من الدين و نزع القداسة
عن القيم (2).
بل حتى تلك التجارب التاريخية الذهنية التي يتم استحضارها عن الحديث عن العلمانية
لم تعد قائمة، فحتى الدول الغربية التي عُرفت بموقفها الإقصائي و المُعادي للدين
أصبحت أكثر إعتدالا، ففي 1994 كان 30 في المائة
من الروس تحن سن الخامسة و العشرين قالوا
بأنهم قد غيروا من الإلحاد إلى الإيمان بالله. و زاد عدد الكنائس النشيطة في موسكو
من 55 في 1988 إلى 250 في 1993. و أصبح
الزعماء السياسيون يرتدون الزي الديني بوقار و الحكومات تدعم ذلك... الكنائس التي كانت بالأمس حطاما
تنتعش مرة أخرى باغانيها الشجية، و أصبحت الكنائس أكثر مكان مزدحم بالمدينة (3).
كما يؤكد أكبر علماء اللاهوت الأمريكيّين في القرن العشرين رينهولد نيبوهر
(Neibuhr Reinhold) بقوله:
"إنّ الأمريكيين في الوقت نفسه أكثر الشعوب تديّنًا وأكثرها علمانية، فكيف لنا
أن نفسّر هذا التناقض؟ هل يمكن أن يكون أحد أسباب ذلك كون الأمريكيين هم الأكثر تدينًا
أم إنّهم أكثر الثقافات علمانيّة؟" (4)
من هنا، نستسف أنه لم تعد العلمانية اليوم كمفهوم هي نفسها العلمانية
المتحدث عنها في القرن الماضي، و خاصة في نصفه الأول، حيث أمست العلمانية مع مطلع
القرن الحالي أكثر تسامحا من الدين، و غير متشنجة اتجاهه، و أكثر النماذج السياسية
و الثقافية إستقرارا على الصعيد العالمي هي تلك التي استطاعت التخلص من المفهوم
الضيق و المغلق للعلمانية، و خاصة تلك التي صاغها و عممها التقليد الفرنسي (5)، و عليه، نعيد و نأكد على أن العلمانية كفكرة
لا كواقع، لا تبتر الدين من قلوب المتدينين بل تعطيهم الفرصة للتمسك بالدين من منطلق
اقتناعي وليس من منطلق قانوني. فالعلمانية في الدول الغربية هي التي منحت الحق للمسلمين المهاجرين في بناء المساجد و
للدعاة بالدخول إلى أراضيها و نشر الدعوة مع علم الدولة و الحكومة. إن العلمانية فصل بين
الممارسة السياسية و الممارسة الدينية، لان إقحام الدين في مجال الصراع على السلطة لم
يكن فال خير على المسلمين، فلا هو ضمن وحدتهم ولا هو جمع شملهم. كما أنها تعني عدم تتدخل الدولة في
الاختيارات الدينية للمواطن بفضل سلطتها و لا تأثر في إيمان الفرد بحجة الحفاظ على
"وحدة الأمة" و "الأمر بالمعرف و النهي عن المنكر" و
"الحفاظ على الدين" و غيرها من الشعارات التي ترفعها الجماعات الأصولية
التي تريد أن تضخم من وظائف الدولة و أن توسعها لتصل إلى حدود المجال الخاص،فتفرض
عقوبات على من لا يـأتي بعض الطقوس أو الواجبات الدينية. و هنا تصبح الدولة ذاك "الجلاد" الذي ناب عن الإله. و هذا جوهر التصور الديني أيضا، حيث أن الواجبات
الدينية و الإيمان قائمان على "الإلتـــزام" و ليس
"الإلــــزام"، بمعنى أنهما اختيار جواني نابع من قناعة راسخة و إرادة
مستقلة و ذات حرة، و ليس من سلطة برانية انطلاقا من إكراه و ترهيب. فالدولة عندما
تمتد يدها إلى إلزام المواطن على أداء الواجبات الدينية (بين العبد و الله) هنا
نبدأ في تحريف عمق الإيمان، كما نأسس لمجتمع النفاق، و يبدأ المواطن في أداء تلك
الواجبات انطلاقا من خوفه النابع من العقوبة، والخوف منبع العبوديّة حسب هيجل، و أساس
أخلاق العبيد حسب نيتشه، أمّ الرذائل عند معظم الفلاسفة اليونانيين، وقد كان علي
بن أبي طالب حاذقاً في نقده للإيمان القائم على الخوف والذي أطلق عليه في إحدى
أبلغ عباراته اسم “عبادة العبيد” مقابل “عبادة الأحرار”. فالعلمانية تحفظ إيمان الفرد من أي إكراه براني
غير نابع من الذات، و هذا عين الدين لما قال الله: [فَمَن كَانَ يَرْجُو
لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ
رَبِّهِ أَحَدًا ]، فحسب الأية يكون شرط قبول العمل رهين
بتحقق أمرين: أن يكون صالحا، و خالص لوجه الله دون إكراه خارجي (دولة، مجتمع،
تقاليد، قانون....). فعندما أخرج للشارع و أنا صائم خوفا من عقوبة الدولة للذي يأكل
في نهار رمضان، فهذا عمل باطل في أصله، لانه نتيجة إكراه من الدولة، و ليس قناعة مني بضرورة الإمتثال للأمر الرباني في
الصوم. كما أن العلمانية عندما تجعل الدولة في مسافة عن الدين، فانها تحفظ لهذا
الأخير بعده الأنطولوجي و القيمي.
من نافل القول التأكيد على أن الإشكال أعمق بكثير، و كما أشار المفكر سعيد
ناشيد فان معضلة
العلمانية عندنا أنها يجب أن تكون جزءا من رؤية إصلاحية للدين. لا يكفي القول
بالفصل بين الدين والدولة، أو بين الشريعة والقانون الوضعي، أو تمييز الفضاء
الديني عن الفضاء السياسي، أو الحياد الديني للدولة… إلخ، لا بد وأن يكون هذا
القول جزءا من رؤية إصلاحية تجيب عن أسئلة رئيسية : أولا، ما هي وظيفة الدين؟
ثانيا، ما وظيفة القرآن؟ ثالثا، ما الشريعة؟
(1)سعيد
ناشيد، قلق في العقيدة، الفصل: العلمانية مطلب أنطولوجي ص 49،دار
الطليعة بيروت.
(2)
سيد محمد نقيب العطاس، مداخلات فلسفية في الإسلام و العلمانية، ترجمة محمد
طاهر الميساوي.
(3) صموئيل هنتنغتون، صدام الحضارات و إعادة بناء النظام
العالمي.
(4) كوزمين
باري، "العلمانية المتساهلة، معاينة للنموذج التاريخي الأمريكي"،
مجلة الاستغراب.
(5)محمد
جبرون، أزمة العلاقة بين الإسلاميين و العلمانيين بالعالم العربي (رؤى في نقد
الإنشقاق).
تعليقات
إرسال تعليق